كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ لَا يَلْحَقُ فَاعِلَهُ فِيهِ الْوَعِيدُ. وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ زَيْدًا أَقَامَ بَعْدَ قَوْلِهَا عَلَى ذَلِكَ الْبَيْعِ. وَعَلَى أَنَّ إنْكَارَ عَائِشَةَ عَلَى زَيْدٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ لِمَا عَرَفَتْ مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ كَانَتْ قَالَتْهُ تَوْقِيفًا فَهُوَ مَا قُلْنَا، وَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهِ هَهُنَا. وَإِنْ قَالَتْهُ اجْتِهَادًا، فَقَدْ اسْتَعْمَلَتْ الِاجْتِهَادَ فِي إبْطَالِ ذَلِكَ الْبَيْعِ، وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ فِيهِ عَلَى زَيْدٍ، فَأَنْتَ مِنْ حَيْثُ أَرَدْت أَنْ تُثْبِتَ عَنْهَا نَفْيَ الِاجْتِهَادِ. فَقَدْ أَثْبَتَّ قَوْلَهَا بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ يَصِيرُ حِينَئِذٍ الْكَلَامُ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، أَوْ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَهَذَا الْبَابُ لَا مَدْخَلَ لِمُبْطِلِي الِاجْتِهَادِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ، لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ. وَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي رَدِّ التَّوْقِيفِ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ، لِأَنَّهُ يُلَاقِي الْأَرْضَ بِمَا عَلَيْهَا (مِنْ) طِينٍ، وَتُرَابٍ، وَقَذَرٍ (وَلَا يُلَاقِيهَا، ظَاهِرُهُ) إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ الْقِيَاسَ، لِأَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ ظَاهِرَ الْخُفِّ دُونَ بَاطِنِهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُرَادُهُ نَفْيَ الْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ. فَإِنَّهُ لَا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا ذَمُّ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ يَنْصَرِفُ الْقَوْلُ فِيهَا إلَى وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْمًا يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ. وَقَوْمٌ آخَرُونَ يَقُولُونَ: لِلْفُقَهَاءِ أَنْ يَقُولُوا بِآرَائِهِمْ، وَبِمَا يَسْنَحُ فِي أَوْهَامِهِمْ، وَيَخْطِرُ بِبَالِهِمْ فِي الْبَابِ الَّذِي فِيهِ الْحَادِثَةُ، مِنْ غَيْرِ احْتِذَاءٍ مِنْهُمْ عَلَى أَصْلٍ، وَلَا رَدٍّ عَلَى نَظِيرٍ،