عَلَى إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ، فَقَدْ أَوْجَبَتْ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا مِنْ وُجُوهِ التَّوْقِيفِ بِذَلِكَ، وَمَنْ خَالَفَهَا بَعْدَ سَمَاعِهَا، فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إبَاحَتَهُ لِلِاجْتِهَادِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، وَاعْتِبَارِهِ بِنَظِيرِهِ فِي الْحُكْمِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي إبَاحَتِهِ لِلِاجْتِهَادِ، حُذِفَتْ أَسَانِيدُهَا كَرَاهَةَ الْإِطَالَةِ، وَلِأَنَّهَا أَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَمِنْهُ حَدِيثُ «أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الْأَغْنِيَاءُ بِالْأَجْرِ، يَتَصَدَّقُونَ وَيَصُومُونَ، قَالَ: وَأَنْتُمْ قَدْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَتَصَدَّقُونَ، وَنَحْنُ لَا نَتَصَدَّقُ. قَالَ: وَأَنْتَ فَلَكَ صَدَقَةٌ: رَفْعُك الْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَثَبَاتُك عَنْ الْإِثْمِ صَدَقَةٌ، وَعَوْنُك الضَّعِيفَ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ صَدَقَةٌ. وَمُبَاضَعَتُك امْرَأَتَك صَدَقَةٌ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَأْتِي شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ جَعَلْتُمُوهَا فِي حَرَامٍ أَكُنْتُمْ تَأْثَمُونَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَحْتَسِبُونَ بِالشَّرِّ، وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ؟» فَقَايَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَلَّهُ بِذِكْرِ الْمَحْظُورِ عَلَى مَا قَابَلَهُ مِنْ الْمُبَاحِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ. وَقَدْ اعْتَرَضَ النَّظَّامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِالْوَطْءِ الْمُبَاحِ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَجْرُ، وَلَوْ كَانَ الْمُبَاحُ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَجْرُ، لَكَانَ لَا فِعْلَ إلَّا مَحْظُورًا، أَوْ نَافِلَةً، وَلَبَطَلَ الْقِسْمُ الْمُبَاحُ. فَيُقَالُ لَهُ: مَا تُنْكِرُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِهِ الْأَجْرُ (إذَا قَصَدَ) بِهِ الْعِفَّةَ، وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْحَرَامِ، وَشُكْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى تَمْكِينِهِ إيَّاهُ مِنْ الْحَلَالِ، وَلِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ الِاغْتِسَالِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ، فَيَكُونُ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْوَطْءِ الْمَقْصُودِ بِهِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَالْمُقَارِنَةُ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ، هُوَ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْأَجْرُ دُونَ مَا يَقْصِدُ بِهِ التَّلَذُّذَ الَّذِي لَا يُجَامِعُهُ هَذِهِ