قَادِحٍ فِي صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْأَصْلِ وَعَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْت غَلَطٌ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَوْ كَانَ حَكَمَ فِيهِمْ بِالْجِزْيَةِ أَنْ لَا يُجِيزَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى الْيَهُودِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِقْ حُكْمُهُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُجِزْهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَجَازَ حُكْمَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّطَهُ عَلَى الْحُكْمِ بِمَا يَرَاهُ.

فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا حَكَّمَ سَعْدًا، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ حُكْمَهُ سَيُوَافِقُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ أَبَاحَ لَهُ الِاجْتِهَادَ قِيلَ لَهُ: فَكَذَلِكَ يَقُولُ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ، أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُمْ الِاجْتِهَادَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيُوَافِقُونَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَ بِكَتْبِ الْكِتَابِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ الْكَاتِبُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا كَذَّبْنَاكَ وَلَكِنْ اُكْتُبْ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ اُمْحُ رَسُولَ اللَّهِ، وَاكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا كُنْتُ لِأَمْحُوَهَا، فَمَحَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجْتِهَادَهُ فِي تَرْكِ مَحْوِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا قَصَدَ تَعْظِيمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَبْجِيلَ ذَلِكَ الِاسْمِ، وَرَأَى أَنْ لَا يَمْحُوَهُ هُوَ لِيَمْحُوَهُ غَيْرُهُ فَكَانَ ذَلِكَ طَاعَةً مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: (قَدْ) فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك مَحْوَهَا لَمَحَاهَا بِيَدِهِ وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ أَبَا بَصِيرٍ لَمَّا هَرَبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الصُّلْحِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015