لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ النِّكَاحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فَمَنْ ادَّعَى حَظْرَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِخْرَاجَهُ مِنْ الْعُمُومِ، احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ، وَإِلَّا فَأَنَا مُعْتَصِمٌ بِالظَّاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَظْرُهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ خَصْمَهُ يَقُولُ (لَهُ) : فَدَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ. فَتَسَاوَيَا جَمِيعًا فِيهِ، وَيَحْتَاجُ الْمَسْئُولُ حِينَئِذٍ إلَى إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ.
فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يَصِحُّ لِلْقَائِلِ فِيهِ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فَسَادُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ صِحَّتُهُ؛ إذْ عَلَّقَهُ بِأَصْلٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَيَكُونُ الْأَصْلُ الَّذِي بَنَاهُ عَلَيْهِ، هُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ، وَإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ.
(وَ) مَنْ رَامَ الْخُرُوجَ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ، احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي خُرُوجِهِ عَنْهُ، وَمَنْ اعْتَصَمَ بِالْأَصْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أَكْثَرَ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِمَّا يُضَاهِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ بِعَيْنِهِ: إثْبَاتُ الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ إثْبَاتِهَا التَّوْقِيفُ وَالِاتِّفَاقُ، فَجَائِزٌ عِنْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ لِمَنْ أَثْبَتَ مِقْدَارًا قَدْ دَخَلَ فِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ، أَنْ يَقُولَ: أَثْبَتْنَا هَذَا الْقَدْرَ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَائِلُ عَلَى إثْبَاتِ مَا سِوَاهُ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، إذَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ تَوْقِيفًا، وَلَا اتِّفَاقًا، وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ.
نَظِيرُ ذَلِكَ: إنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ. (فَقِيلَ لَنَا لِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلَا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ؟) جَازَ لَنَا أَنْ نَعْتَصِمَ فِيهِ بِمَوْضِعِ الِاتِّفَاقِ، عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْمِقْدَارَيْنِ يَكُونَانِ حَيْضًا.