قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقَدْ بَانَ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ هَذَا عِنْدَهُ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ، بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَتَقَدَّمُهُ اخْتِلَافٌ فِي بَابِ وُجُوبِ فَسْخِ قَضَاءِ الْقَاضِي (بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ) وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: إجَازَةُ أَبِي حَنِيفَةَ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، لَا يَدُلُّ عَلَى: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْإِجْمَاعَ الَّذِي حَصَلَ فِي مَنْعِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ فِيهِ إجْمَاعًا صَحِيحًا، يَلْزَمُ صِحَّتُهُ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ اتِّبَاعُهُ، إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ: أَنَّهُ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِخِلَافِهِ، فَكَانَ يَذْكُرُ لِذَلِكَ وَجْهًا ذَهَبَ عَنِّي حِفْظُهُ، وَاَلَّذِي يَقُولُهُ فِي ذَلِكَ: إنَّ مَنَازِلَ الْإِجْمَاعَاتِ مُخْتَلِفَةٌ كَمَنَازِلِ النُّصُوصِ، يَكُونُ بَعْضُهَا آكَدَ مِنْ بَعْضٍ، وَيُسَوَّغُ الِاجْتِهَادُ فِي تَرْكِ بَعْضِهَا، وَلَا يَجُوزُ فِي تَرْكِ بَعْضٍ.

أَلَا تَرَى: أَنَّ النَّصَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي لُزُومِ حُجَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي مَعْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ حُجَّتُهُمَا جَمِيعًا عِنْدَنَا ثَابِتَةً، كَذَلِكَ حُكْمُ الْإِجْمَاعَاتِ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَهُ اخْتِلَافٌ، وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ خِلَافٌ فِي بَابِ فَسْخِ قَضَاءِ الْقَاضِي، بِخِلَافِ أَحَدِهِمَا وَمَنْعِهِ ذَلِكَ فِي الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ، أَوْ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَهُوَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ إجْمَاعٌ قَدْ سَبَقَهُ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ سَوَّغَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ الِاجْتِهَادَ فِيهِ وَأَبَاحُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ، فَسَاغَ الِاجْتِهَادُ فِي مَنْعِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَهُمْ، وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي خِلَافِهِ لَا يُفْسَخُ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ عَصْرٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ خِلَافٌ، فَيُفْسَخُ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِخِلَافِهِ، لِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ لَا يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي رَدِّهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يُخَالِفُ فِيهِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ قَوْمٌ - هُمْ شُذُوذٌ عِنْدَنَا - لَا نَعُدُّهُمْ خِلَافًا، فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا: (أَنَّهُ) لَيْسَ فِي مَنْعِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسْخُ قَضَاءِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015