فَصْلٌ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ طَائِفَةٌ، وَبِالْقَوْلِ الْآخَرِ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِثْلُهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مِمَّنْ يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِخِلَافِهَا، وَلَا يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ مِنْهَا، ثُمَّ انْقَرَضَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَبَقِيَتْ الْأُخْرَى - فَإِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَكَرَ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي شَيْءٍ جَرَوْا فِيهِ إلَى تَأْثِيمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَلَمْ يُسَوِّغُوا اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِيهِ، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الْبَاقِيَةَ يَكُونُ إجْمَاعُهَا حُجَّةً، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا: أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُتَمَسِّكَةَ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو مِنْهَا زَمَانٌ، وَهِيَ قَدْ شَهِدَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي انْقَرَضَتْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا حَقًّا وَصَوَابًا، وَوَجَبَ الْحُكْمُ بِفَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي انْقَرَضَتْ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا سَوَّغُوا فِيهِ الِاخْتِلَافَ، وَأَبَاحُوا فِيهِ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِبَقَاءِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، قَالَ: لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا قَدْ أَجْمَعُوا بَدِيًّا عَلَى تَسْوِيغِ الِاخْتِلَافِ، وَوَسَّعُوا فِيهِ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ لَا يَسَعُ خِلَافُهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّمَا بُنِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَصْلِهِ: فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الْخِلَافِ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ. وَسَنَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ تَعَالَى.