ضَرَرٌ فِي الدِّينِ لَمَا أَخْلَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ تَوْقِيفٍ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَنَا الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ كَمَا جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِيمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِيمَا بَيْنَنَا فَإِنَّمَا كَانَ مَمْنُوعًا لِأَجْلِ الضَّرَرِ الَّذِي يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، كَمَا احْتَجْنَا نَحْنُ إلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَنْفَعَ أَنْفُسَنَا بِضَرَرِ غَيْرِنَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ نُوصِلَهُ بِهِ نَفْعًا أَعْظَمَ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يُبِيحَهُ لِي (مَالِكُهُ) وَمَالِكُ الْأَعْوَاضِ كُلِّهَا، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرْته وَبَيْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا: أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إتْلَافَ مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّ حَائِطِ الْإِنْسَانِ وَالْقُعُودِ فِي ضَوْءِ سِرَاجِهِ إتْلَافُ شَيْءٍ عَلَيْهِ.
قِيلَ لَهُ: إتْلَافُهُ إيَّاهَا لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ مِلْكِ مَالِكِهَا (لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكٌ لَهَا) قَبْلَ الْإِتْلَافِ وَبَعْدَهُ، إذْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إعَادَتِهَا إلَى مَا كَانَتْ، فَلَمْ يَخْرُجْ بِالْإِتْلَافِ عَنْ مِلْكِهِ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ الْحَائِطُ وَالسِّرَاجُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ بِانْتِفَاعِ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى كَانَ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِظِلِّ حَائِطِهِ وَالْقُعُودِ فِي ضَوْءِ سِرَاجِهِ هُوَ: أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى مَالِكِهِ فِيهِ، وَلِهَذَا فِيهِ نَفْعٌ. فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا وَصَفْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حَيْثُ كَانَ لَهُ فِيهَا نَفْعٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى مَالِكِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ (حُكْمُهَا حُكْمَ) مَا وَصَفْنَا، وَأَنْ لَا يَمْنَعَ اخْتِلَافُهُمَا مِنْ جِهَةٍ: أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا إتْلَافًا، وَلَيْسَ فِي الْآخَرِ مِثْلُهُ، مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا.