عَلَى فَاعِلِ شَيْءٍ مِمَّا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَى قُبْحِهِ: مِنْ نَحْوِ الظُّلْمِ وَالْكُفْرِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَنَقُولُ: إنَّ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ: ثَلَاثَةُ أَنْحَاءٍ.
مِنْهَا: وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّغْيِيرُ (وَالتَّبْدِيلُ) نَحْوُ: الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَوُجُوبِ الْإِنْصَافِ.
وَمِنْهَا: مَا هُوَ قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ، مَحْظُورٌ، لَا يَتَبَدَّلُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ، نَحْوُ: الْكُفْرِ، وَالظُّلْمِ، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ ذُو جَوَازٍ فِي الْعَقْلِ: يَجُوزُ إبَاحَتُهُ تَارَةً، وَحَظْرُهُ أُخْرَى، وَإِيجَابُهُ أُخْرَى، عَلَى حَسَبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مِنْ مَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ وَمَضَارِّهِمْ.
فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَهُوَ قَبْلَ مَجِيءِ السَّمْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ أَكْثَرَ مِمَّا يُجْتَلَبُ بِفِعْلِهِ مِنْ النَّفْعِ، وَيَجُوزُ مَجِيءُ السَّمْعِ تَارَةً بِحَظْرِهِ، وَتَارَةً بِإِبَاحَتِهِ، وَأُخْرَى بِإِيجَابِهِ، عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ مَا وَصَفْنَا لِفَاعِلِهَا مِنْ الْمُكَلَّفِينَ: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ مَعَانٍ.
إمَّا: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا لَا لِيَنْفَعَ أَحَدًا، وَهَذَا عَبَثٌ وَسَفَهٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهُ، أَوْ يَكُونُ خَلَقَهَا لِيَضُرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ، وَهَذَا أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهَا لِمَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْمَنَافِعُ، وَ (لَا) الْمَضَارُّ. فَثَبَتَ أَنَّهُ خَلَقَهَا لِمَنَافِعِ الْمُكَلَّفِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَأْتِي لَهُمْ ذَلِكَ مِنْهَا، مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى ضَرَرٍ أَعْظَمَ مِمَّا يُجْتَلَبُ بِهِ مِنْ النَّفْعِ.