وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ إسْقَاطِ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَسَاوَيَا دَلَالَةٌ: عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ حُكْمُهَا: أَنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْحَوَادِثَ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا أُصُولٌ مِنْ النُّصُوصِ، وَأَشْبَاهٌ وَنَظَائِرُ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِحُكْمِهَا خَبَرٌ. فَمَتَى خَلَتْ الْحَوَادِثُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ، حُمِلَ عَلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الْأُصُولِ، فَإِذَا عَارَضَتْ الْأُصُولُ بَعْضَ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ، دُونَ مَا خَالَفَتْهُ.
وَأَمَّا نَجَاسَةُ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتُهُ فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ إذَا تَعَرَّتْ مِنْ الْخَبَرِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ عِنْدَ تَسَاوِي الْخَبَرَيْنِ. اطِّرَاحُهُمَا، وَبَقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى أَصْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ سَوَّى عِيسَى بْنُ أَبَانَ بَيْنَ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا تَعَرَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى صَاحِبِهِ، مِنْ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ، فَإِنَّ سَبِيلَهُمَا: أَنْ يَسْقُطَ، كَأَنَّهُمَا لَمْ يُرْوَيَا، وَجَعْلُهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ إذَا أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ، وَالْآخَرُ بِنَجَاسَتِهِ، وَتَسَاوَيَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ. فَيَسْقُطَانِ جَمِيعًا. وَذُكِرَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ: فِي الرَّجُلَيْنِ حِينَ اخْتَلَفَا فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ: أَنَّهُمَا أَسْقَطَا خَبَرَهُمَا وَشَرِبَا. وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ يَحْتَجُّ لِتَرْجِيحِ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى خَبَرِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، فِي تَزْوِيجِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ حَلَالٌ: بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ حَادِثٍ عَلِمَهُ، وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، وَأَبُو رَافِعٍ، وَمَنْ رَوَى: أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا.
إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ظَاهِرِ مَا كَانَ عَلِمَهُ بَدْءًا، مِنْ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ إحْرَامِهِ، فَكَانَ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى.
وَكَذَلِكَ مَنْ أَخْبَرَ: أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ، فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ حُرِّيَّةٍ حَادِثَةٍ عَلِمَهَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ قَدْ كَانَ عَبْدًا مَرَّةً، وَمَنْ قَالَ كَانَ عَبْدًا. فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ ظَاهِرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَدْءًا مِنْ رِقِّهِ. وَلَمْ يُعْلَمْ حُدُوثُ عِتْقِهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ رَوَى: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ» . فَقَدْ عَلِمَ حُدُوثَ نِكَاحٍ لَمْ يَعْلَمْهُ مَنْ أَخْبَرَ: أَنَّهُ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ. فَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ يَجْرِي حُكْمُ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ إذَا كَانَ بِالْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ حِجَاجُهُ لِتَثْبِيتِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْنَا: أَنْ نَقُولَ مِثْلَهُ فِي الْخَبَرَيْنِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ، فَنَجْعَلُ الْخَبَرَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ عَلِمَ حُدُوثَ نَجَاسَةٍ لَمْ يَعْلَمْهُ الْمُخْبِرُ بِطَهَارَتِهِ، وَإِنَّ الْمُخْبِرَ