الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا، فَمَتَى أَدَّى الِاجْتِهَادُ إلَى حَمْلِهِمَا عَلَى الْوِفَاقِ حَمَلْنَاهُمَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِعْمَالِ، وَدَلَالَةِ الْأُصُولِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْتَمِلَا الْمُوَافَقَةَ - فَإِنَّ الْآخَرَ مِنْهُمَا يَكُونُ نَاسِخًا الْأَوَّلَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْآخَرَ ثَابِتٌ إذْ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ مَزِيَّةٌ عَلَيْهِ فِي ثُبُوتِهِ دُونَهُ، وَفِي ثُبُوتِ الْآخَرِ نَفْيُ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا إذَا عَمِلَ النَّاسُ بِالْأَوَّلِ إلَّا الشَّاذُّ مِنْهُمْ، وَسَوَّغُوا مَعَ ذَلِكَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْآخَرِ، وَلَمْ يَعِيبُوا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا جَازَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِيهِ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ اتَّفَقُوا فِي هَذِهِ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ.
وَأَمَّا إذَا عَابُوا عَلَى مَنْ ذَهَبَ إلَى الْخَبَرِ الْآخَرِ، فَإِنَّمَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُ مَا عَمِلَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَظَهَرَ فِي أَيْدِيهِمْ، دُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّاذُّ مِنْهُمْ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ النَّاسِ الْأَوَّلَ يُوجِبُ صِحَّتَهُ وَثَبَاتَهُ، فَلَوْ كَانَ الْآخَرُ ثَابِتًا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ الْأَوَّلَ، وَلَمَا أَنْكَرَهُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ وَاسْتَفَاضَ فِي الْكَافَّةِ ثُمَّ نُسِخَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مَحَالَةَ يُظْهِرُ نَسْخَهُ فِيمَنْ ظَهَرَ فِيهِمْ فِي حُكْمِهِ بَدْرً، فَدَلَّ إنْكَارُهُمْ عَلَى الْآخَرِينَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ الْآخَرِ، أَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتُ الْحُكْمِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ شَاذٌّ، لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ لَمَّا عَلِمُوا بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ دُونَ الْآخَرِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْآخَرَ قَدْ رُوِيَ - فَهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْحُكْمَ بِالثَّانِي، إلَّا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتُ الْحُكْمِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الثَّانِي نَاسِخًا لَهُ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرُوا الثَّانِيَ وَثَبَتُوا عَلَى الْأَوَّلِ، عَلِمْنَا: أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا شُذُوذَ الثَّانِي، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ مُوجِبٌ لِتَقْوِيَةِ بَقَاءِ حُكْمِ خَبَرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ: مِنْ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ مَقْبُولَةٌ اجْتِهَادًا، عَلَى حَسَبِ مَا تَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ صِحَّتِهَا وَسَلَامَتِهَا، وَمِنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لَهَا، أَوْ مُخَالَفَتِهَا إيَّاهَا، فَكَانَ مَا وَصَفْنَا فِي هَذَا