مُتَشَاعِرِينَ يُخْبِرُونَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ عَنْ أَمْرٍ شَاهَدُوهُ، لَمَا وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، إذَا جَوَّزْنَا عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤَ، وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَسْوَاقِ هَاهُنَا بِبَغْدَادَ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى تَعَارُضِ الشَّهَادَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَرُبَّمَا حَضَرَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ أَكْثَرُ، يَشْهَدُونَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ بِجِنَايَةٍ فِي نَفْسٍ، أَوْ عِرْضٍ، أَوْ مَالٍ، فَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ، لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ عَلَيْهِمْ. فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: أَنْ يُسْتَدَلَّ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ: عَلَى أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مِنْ الْمُخْبِرِينَ هَذَا مِقْدَارُهُ لَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا تَقُولُ إنْ جَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مُتَفَرِّقِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا.
قِيلَ لَهُ: نَحُدُّهُمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا أَنْ يَحْضُرُوا جَمِيعًا، فَيَشْهَدُونَ مُجْتَمِعِينَ، وَإِلَّا كَانُوا قَذَفَةً.
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ شَهِدَ عِنْدِي مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ مُتَفَرِّقِينَ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَحَدَدْتهمْ جَمِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُ لَوْ شَهِدَ عَشَرَةٌ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى إقْرَارِ رَجُلٍ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ وَجَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ. هَلْ يَقَعُ لَك الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ؟ وَهَلْ نَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ إذَا كَانُوا فُسَّاقًا، لِأَجْلِ مَا وَقَعَ مِنْ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ حَتَّى جَاءُوا غَيْرَ مُتَشَاعِرِينَ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ فِيهِ؟ .
قِيلَ لَهُ: إنْ جَازَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ قَوْمٍ مُخْتَلِفِي الْهِمَمِ، لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّةِ خَبَرِهِمْ، إلَّا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِوُقُوعِ الْعِلْمِ حَتَّى يَكُونُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ، إذْ قَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَعْلَمَ الْحَاكِمُ حَقًّا لِإِنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْحُكْمَ، أَوْ يَعْلَمَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ حُكْمِهِ، ثُمَّ يَصِيرَ إلَى عِلْمِهِ، أَوْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِمَّا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا، أَوْ السَّرِقَةِ، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي عِلْمِهِ، أَوْ فِي مُخْبِرِ عِلْمِهِ، فَيَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْ الشُّهُودِ يَحْتَاجُ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ غَيْرِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ سِوَاهُ، حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ فِي إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا.
وَأَيْضًا: فَإِنْ الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ سَوَاءٌ، وَالْأَرْبَعَةَ وَمَنْ فَوْقَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا سَوَاءٌ، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا فِيهَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا فِي شَرْطِ التَّوَاتُرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ.