دَلَائِلَ عَلَى مَا انْتَحَلُوهُ مِنْ النُّبُوَّةِ، فَلَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَبَانَ كَذِبُهُمْ، وَانْكَشَفَ بُطْلَانُ دَعْوَاهُمْ.
قَالَ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ قَائِلٍ: رَأَيْت رِجَالًا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ نَسْلٍ، وَرَأَيْت دَارًا وُجِدَتْ مِنْ غَيْرِ بَانٍ بَنَاهَا، وَرَأَيْت النَّاسَ تَفَانَوْا بِالْقَتْلِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، ثُمَّ لَا يُخْبِرُ أَحَدٌ مِمَّنْ جَاءَ مِنْ مَكَّةَ بِمِثْلِ خَبَرِهِ، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ.
قَالَ: فَأَمَّا مَا يَجُوزُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا يَتَوَاتَرُ بِهَا الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ عَلَيْهَا التَّوَاطُؤُ، فَيَجُوزُ فِي خَبَرِهِمْ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، فَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةَ وَنَفْيَ التُّهْمَةِ، فَخَبَرُهُ مَقْبُولٌ فِي الْأَحْكَامِ، عَلَى شَرَائِطَ نَذْكُرُهَا، مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ مِنَّا بِصِدْقِهِ، وَلَا الْقَطْعُ عَلَى عَيْنِهِ.
وَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْفِسْقَ وَالتُّهْمَةَ بِالْكَذِبِ فَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَصَدَ عِيسَى إلَى ذِكْرِ تَقْسِيمِ الْأَخْبَارِ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ الْحُكْمِ بِمُخْبِرِهَا دُونَ الْخَبَرِ الَّذِي يُقَارِنُهُ، دَلَالَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَسَنُفَصِّلُهَا بِاسْتِيفَائِنَا لِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ الْأَخْبَارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُتَوَاتِرٌ، وَغَيْرُ مُتَوَاتِرٍ.
فَالْمُتَوَاتِرُ مَا تَنْقُلُهُ جَمَاعَةٌ لِكَثْرَةِ عَدَدِهَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ صِفَتِهِمْ الِاتِّفَاقُ وَالتَّوَاطُؤُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ عَلَى اخْتِرَاعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ، فِيمَا نُبَيِّنُهُ بَعْدُ.
وَغَيْرُ الْمُتَوَاتِرِ: مَا يَنْقُلُهُ وَاحِدٌ وَجَمَاعَةٌ، يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى نَقْلِهِ.
فَأَمَّا الْمُتَوَاتِرُ: فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ يُعْلَمُ بِخَبَرِهِ بِاضْطِرَارٍ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، لِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ. وَضَرْبٌ مِنْهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَالْآخَرُ: لَا يُوجِبُهُ، وَسَنُبَيِّنُ الْقَوْلَ مِنْ وُجُوهِهِ، بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ ذِكْرِ أَقْسَامِ الْمُتَوَاتِرِ، وَمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ الْأَخْبَارِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا.
الْكَلَامُ عَلَى مَنْ حَكَيْنَا أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ
قَالَ: الَّذِينَ دَفَعُوا وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ فَلَيْسَ طَرِيقُ الْحِجَاجِ عَلَيْهِمْ