مَأْمُورُونَ فِيهَا بِتَرْكِ الِانْصِرَافِ عَنْهُ، إلَى شَرِيعَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَثَبَتَ أَنَّ مَا كَانَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ الرَّجْمِ، صَارَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرِيعَةً لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي تِلْكَ الْحَالِ، بَلْ صَارَتْ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ مَنْسُوخَةً بِشَرَائِعِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذْ كَانَ الرَّسُولُ مَبْعُوثًا إلَى كَافَّةِ النَّاسِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]- وَالظُّلْمُ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ - فَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ فِي التَّوْرَاةِ قَدْ صَارَ مِنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِعَيْنِهِ، وَإِعْلَامِهِ أَنَّ التَّوْرَاةَ كَذَلِكَ، لَمَا كَانَ الْيَهُودُ ظَالِمِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ حُكْمُ التَّوْرَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ إلَى حُكْمِ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَدَلَّ: عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا سِمَةَ الظُّلْمِ وَالْوَصْفَ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْتَقِدُوا شَرِيعَةَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] فَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ - لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ بَعْدَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَدُعَائِهِ إيَّاهُمْ إلَى دِينِهِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْإِنْجِيلِ شَرِيعَةً لِعِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَدُونَ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دُونَ كَوْنِهِ مِنْ شَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ وَسِمَةَ الْفِسْقِ، لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي شَرَائِعِهِ، بَلْ يَقْتَضِي: أَنْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِالْبَقَاءِ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَبُلُوغِهِمْ دَعْوَتَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، مَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخِلَافِهَا وَنَسْخِهَا، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالْفِسْقِ، لِأَنَّهُمْ زَالُوا عَنْ حَدِّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، مِنْ اتِّبَاعِهِ، وَالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرِيعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.