أَلَا تَرَى: أَنَّ الْمَيْتَةَ الْمُحَرَّمَةَ مَعَ قِيَامِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ فِيهَا، لَمْ يَمْتَنِعْ إبَاحَتُهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، لِأَجْلِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ لِنَفْسِ الْمَيْتَةِ. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْمَيْتَةَ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ (مَجِيءِ) الشَّرْعِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، وَإِنَّمَا الْحَظْرُ تَنَاوَلَهَا بِمَجِيءِ الشَّرْعِ، ثُمَّ جَازَ تَخْصِيصُ حَظْرِهَا بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، كَذَلِكَ الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا أَنْكَرْت أَنَّهَا مَتَى صَحَّتْ عِلَّةً وَأَمَارَةً لِلْحُكْمِ، فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهَا وَحُكْمُ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فِي بَابِ امْتِنَاعِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ فِيهَا، لِأَنَّ طَرِيقَ اسْتِدْرَاكِهَا وَالْوُصُولِ إلَيْهَا دُونَ السَّمْعِ: إنَّمَا هُوَ الْعَقْلُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ وُرُودَ السَّمْعِ لَمْ يُخْرِجْهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهَا غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِأَحْكَامِهَا، لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَرِدَ السَّمْعُ بِأَنَّهُ مُوجِبٌ لَهُ لِنَفْسِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَحُكْمُهَا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ، كَهُوَ قَبْلَ وُرُودِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَوَاجِبٌ إذًا أَنْ يَعْتَبِرَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فِي كَوْنِهَا عَلَامَةً لِلْحُكْمِ وَأَمَارَةً لَهُ، عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ لَمَّا كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِهَا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ: الْعَقْلَ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَغَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا ذُكِرَ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْمَعْقُولَةَ مِنْ الْمَسْمُوعَاتِ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا الْعَقْلُ أَيْضًا، لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يَعْلَمُهَا، وَلَا يَصِلُ إلَى حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا، ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ جَوَازُ التَّخْصِيصِ عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْعِلَلُ. وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِهَا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ: الْعَقْلُ، فَإِنَّ حَظَّ الْعَقْلِ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ