وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ قُضَاةِ مَدِينَةِ السَّلَامِ، مِمَّنْ كَانَ يَلِي الْقَضَاءَ بِهَا فِي أَيَّامِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ، قَالَ سَمِعْتُ إبْرَاهِيمَ بْنَ جَابِرٍ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ هَذَا رَجُلًا كَثِيرَ الْعِلْمِ، قَدْ صَنَّفَ كُتُبًا مُسْتَفِيضَةً فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَقُولُ بِإِثْبَاتِهِ. (قَالَ فَقُلْتُ) لَهُ: مَا الَّذِي أَوْجَبَ عِنْدَكَ الْقَوْلَ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَمَا كُنْت قَائِلًا بِإِثْبَاتِهِ؟ فَقَالَ: قَرَأْتُ إبْطَالَ الِاسْتِحْسَانِ لِلشَّافِعِيِّ فَرَأَيْتُهُ صَحِيحًا فِي مَعْنَاهُ، إلَّا أَنَّ جَمِيعَ مَا احْتَجَّ بِهِ فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ هُوَ بِعَيْنِهِ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ، فَصَحَّ بِهِ عِنْدِي بُطْلَانُهُ. وَجَمِيعُ مَا يَقُولُ فِيهِ أَصْحَابُنَا بِالِاسْتِحْسَانِ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا قَالُوهُ مَقْرُونًا (بِدَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ) لَا عَلَى جِهَةِ الشَّهْوَةِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَوُجُوهُ دَلَائِلِ الِاسْتِحْسَانِ مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي عَمِلْنَاهَا فِي شَرْحِ كُتُبِ أَصْحَابِنَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَهُنَا جُمْلَةً، نُفْضِي بِالنَّظَرِ فِيهَا إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْدَ تَقْدِمَةٍ بِالْقَوْلِ فِي جَوَازِ إطْلَاقِ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ.