وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إجَازَةِ ذَلِكَ، وَيَجْعَلُهُ بِالْخِيَارِ، يَحْكُمُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ تَحَكُّمٌ مِنْ قَائِلِهِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا مِثْلَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي الْمُتَحَرِّي لِجِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَفِي الشَّاكِّ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي الِاجْتِهَادِ فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ، وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْأُمُورِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ أَيْضًا، فَيَعْتَدِلُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ الْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ، حَتَّى لَا يَكُونَ عِنْدَهُ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَزِيَّةٌ. وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ كَانَ الْمُجْتَهِدُ بِالْخِيَارِ فِي الْحُكْمِ بِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ شَاءَ، كَأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِمِثْلِهِ.
فَقِيلَ لَهُ: (اُحْكُمْ) فِي ذَلِكَ بِأَيِّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَحْبَبْتَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ إذَا اسْتَوَتْ الْجِهَاتُ عِنْدَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَيِّ الْجِهَاتِ شَاءَ. وَمَنْ يَأْبَى هَذَا الْقَوْلَ وَيَمْنَعُ مِنْهُ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ يُوجِبُ حَظْرًا، وَالْآخَرُ إبَاحَةً، وَاسْتَوَى عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ الْقِيَاسَانِ، حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ: الْحَظْرُ. وَمُوجَبَ الْقِيَاسِ الْآخَرِ: الْإِبَاحَةُ. فَلَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَانَ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ.
فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْقِيَاسِ الْآخَرِ مَعَهُ مُوجِبًا لِلتَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَيْسَ هُوَ مِنْ مُوجَبِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ، (فَاجْتِمَاعُهُمَا لَا يُوجِبُ تَخْيِيرًا، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَارُضِ) الْقِيَاسَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا عِنْدَهُ إطْرَاحُهُمَا، وَطَلَبُ دَلَالَةِ الْحُكْمِ (مِنْ) غَيْرِهِمَا، كَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا نَزَلَا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.