فَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّهُ يُزَوِّجُهَا قِيَاسًا عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ، بِعِلَّةِ أَنَّهَا صَغِيرَةٌ، كَانَتْ عِلَّتُنَا صَحِيحَةً، لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، مِنْ مِنْ أَنَّ الصِّغَرَ مَعْنًى يُسْتَحَقُّ بِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهَا ثَيِّبًا تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهَا فِي مَالِهَا، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ اسْتِحْقَاقُ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا بِالصِّغَرِ، وَزَوَالُ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا بِالْبُلُوغِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الصِّغَرِ أَوْلَى عِلَّةً فِيمَا وَصَفْنَا؛ إذْ كَانَ جَوَازُ عَقْدِ الْأَبِ عَلَيْهَا النِّكَاحَ ضَرْبًا مِنْ الْوِلَايَةِ.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، فَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ عِلَلِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَالٍ غَيْرِ مُوجِبٍ لِكَوْنِ الْمَعْنَى عِلَّةً؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، يَجُوزُ عِنْدَنَا فِيهَا التَّخْصِيصُ، كَتَخْصِيصِ الِاسْمِ، وَتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ نَفْسِهَا، وَاعْتِبَارُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ - بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا - هُوَ عِنْدِي وَجْهٌ قَوِيٌّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمَا يَنْفَكُّ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِسِينَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ.
وَقَدْ كُنْت أَرَى أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ يَسْتَعْمِلُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَكَثِيرٌ مِمَّا فِي فَحْوَى النَّصِّ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى.
أَلَا تَرَى: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّمْنِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ «إنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا» ، قَدْ دَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مُجَاوَرَةَ النَّجَاسَةِ، هِيَ عِلَّةُ التَّنْجِيسِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَاوَرَتْ السَّمْنَ الْجَامِدَ أَمَرَ بِإِلْقَائِهَا وَمَا حَوْلَهَا مِمَّا جَاوَرَهَا، دُونَ مَا لَمْ يُجَاوِرْهَا، وَلَمَّا جَاوَرَ الْمَائِعَ، أَوْ عَامَّتَهُ أَمَرَنَا بِإِرَاقَةِ الْجَمِيعِ. فَعَلَّقَ حُكْمَ التَّنَجُّسِ بِمُجَاوَرَتِهِ لِلنَّجَاسَةِ، وَأَزَالَهُ بِزَوَالِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً مِنْ فَحْوَى الْخِطَابِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّقَ الْحُكْمَ بِهِ.