وَمَعَ هَذَا فَإِنَّا نُجِيبُهُ - وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْنَا ذَلِكَ (لَهُ) - لِحَقِّ النَّظَرِ. فَنَقُولُ: إنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْقِيَاسُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، مَنْ قَدْ حَفِظَ أَكْثَرَ الْأُصُولِ وَعَرَفَهَا، وَعَرَفَ طُرُقَ الْمَقَايِيسِ، وَرَدِّ الْفُرُوعِ إلَى الْأُصُولِ، فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ جَازَ، لَهُ الْقِيَاسُ - وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأُصُولِ - وَلَمْ يُكَلَّفْ حِينَئِذٍ حُكْمَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ الْحَادِثَةَ إلَى أَشْبَهِ الْأُصُولِ الَّتِي تَحْضُرُهُ وَتَخْطِرُ بِبَالِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ رَأْيِهِ، وَحُضُورِ ذِهْنِهِ، كَمَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي تَحَرِّي الْقِبْلَةِ لِمَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهَا.

أَلَا تَرَى أَنَّ حَالَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ مُتَفَاوِتٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْأَعْمَى مِنْ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَهُوَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعَلَامَاتِ، الَّتِي يَعْرِفُهَا الْبَصِيرُ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ الِاجْتِهَادُ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَايِدِ الْعَدُوِّ، عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ، قَدْ يَجُوزُ لِمَنْ عَرَفَ أَكْثَرَ الْأُصُولِ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، فَيَقِيسُ حِينَئِذٍ عَلَى أَشْبَهِ الْأُصُولِ بِالْحَادِثَةِ فِي عِلْمِهِ وَمَا يَحْضُرُهُ. وَإِنْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ، بِأَنَّ الْقَائِسِينَ فَرِيقَانِ: مَنْ يَقُولُ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ، وَمَنْ يَقُولُ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَعَظُمَ مَنْ يَقُولُ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ؛ يَعْذُرُ الْمُخْطِئَ لِلْحُكْمِ، وَيُوجِبُ لَهُ الْأَجْرَ، فَضْلًا (عَنْ) أَنْ يَجْعَلَ فِعْلَهُ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، الْمُبَاحَةِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْأَجْرَ. فَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَعَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى: أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَأَوْجَبَ تَنَافِيَ أَحْكَامِهِ وَتَضَادَّهَا، لِتَحْرِيمِ بَعْضِهِمْ مَا يُحِلُّهُ الْآخَرُ، وَتَحْلِيلِ بَعْضِهِمْ مَا يُحَرِّمُهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إذَا سَأَلَ هَذَا قَالَ: إنِّي قُلْتُ لِامْرَأَتِي: أَنْتِ عَلَيَّ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015