فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنْ كَانَتْ عِلَّةُ الْحُكْمِ هِيَ الْعَلَامَةَ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْحُكْمُ، فَكَيْفَ اخْتَلَفَتْ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ؟ ، وَإِنَّمَا هِيَ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ طَرِيقُ اسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الِاجْتِهَادَ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ: الْكَيْلُ فِي الْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْأَكْلُ، وَعِنْدَ آخَرِينَ الْقُوتُ وَالِادِّخَارُ، عَلَى حَسَبِ رُجْحَانِ أَحَدِ (هَذِهِ) الْمَعَانِي فِي نَفْسِهِ، كَمَا يَجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدُونَ (فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، فَيُؤَدِّي بَعْضَهُمْ اجْتِهَادُهُ إلَى نَاحِيَةِ الشَّرْقِ، وَبَعْضَهُمْ إلَى نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِهِمْ، وَلَمْ يُوجِبْ اخْتِلَافُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا بُطْلَانَ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا، كَذَلِكَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ) فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ عِلْمُ الْحُكْمِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ. وَعَلَى أَنَّ الْأُمُورَ الْعَقْلِيَّةَ عِلَلُهَا مُوجِبَةٌ لِأَحْكَامِهَا، وَلَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُسْتَدِلِّينَ، عَلَيْهَا، وَلَمْ يَدُلَّ وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا عَلَى بُطْلَانِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
وَأَمَّا قَوْلُك: إنَّ هُنَاكَ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لِلْحُكْمِ، وَإِنَّ هَذَا كَلَامٌ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، فَلَا يُجْعَلُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّ هُنَاكَ عِلَّةً لِحُكْمٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ جَعَلَ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ قَالَ: إنَّ هُنَاكَ عِلَلًا لِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَسَنُبَيِّنُهُ إذَا انْتَهَيْنَا إلَى الْقَوْلِ فِي الِاجْتِهَادِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ: بِأَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْقَائِسِينَ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ الْأُصُولِ بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ إلَّا بَعْدَ إحَاطَةِ عِلْمِهِ بِسَائِرِ الْأُصُولِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يَصِحُّ لَهُ دَعْوَى إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِسَائِرِ الْأُصُولِ، حَتَّى لَا يَشِذَّ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْقَائِلِينَ لِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَمُوجِبِي الْعَمَلِ بِهَا، وَإِذَا لَمْ