وَكُلُّ قَوْلٍ رَجَعَ عَلَى قَائِلِهِ مِنْ حَيْثُ يُرِيدُ بِهِ إلْزَامَ خَصْمِهِ فَهُوَ سَاقِطٌ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] فَإِنَّمَا خَطَرَ بِهِ الْقَوْلُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، فِيمَا كَانَ قَائِلُهُ كَاذِبًا (بِهِ) ، وَلَيْسَ هَذِهِ صِفَةَ الْقَائِسِينَ؛ لِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ بِإِبَاحَةِ الْقِيَاسِ، وَمَا يُوجِبُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ. ثُمَّ يَصِيرُ الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ: فِي أَنَّ الْقِيَاسَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ صَادِقًا، أَوْ لَيْسَ بِحُكْمٍ، فَيَكُونُ الْقَائِلُ بِإِبَاحَتِهِ كَاذِبًا، وَسَقَطَ اعْتِرَاضُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ رَجَعَ عَلَيْهِ حَسْبَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى،؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ نَصًّا فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْقِيَاسَ حَرَامٌ. فَهُوَ قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْكَذِبَ بِنَفْيِهِ الْقِيَاسَ عَلَى قَضِيَّتِهِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] فَإِنَّ الْقَائِسِينَ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا يَقُولُ: إنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا سَقَطَ عَنْهُ هَذَا السُّؤَالُ،؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ عَلِمْت أَنَّ مَا أَدَّى إلَيْهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: مَا أَدَّانِي إلَيْهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْعِلْمِ، مَعَ تَجْوِيزِي الْخَطَأَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وَنَحْوِهِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَمْ يَنْفَكَّ الْقَائِسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا بِعِلْمٍ مِنْ حَيْثُ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الدَّلِيلَ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ.
(وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا: إبْطَالُ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالشَّهَادَاتِ،؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ) . .