قَالَ أَبُو مُحَمَّد أجمع جَمِيع الْمُتَقَدِّمين بعد التَّحْقِيق بالبرهان على أَنه لَا يرى إِلَّا الألوان وَإِن كل مَا يرى فَلَيْسَ إِلَّا لوناً وحدوا بعد ذَلِك الْبيَاض بِأَنَّهُ لون يفرق الْبَصَر وحدوا السوَاد بِأَنَّهُ لون يجمع الْبَصَر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا حد وَقعت فِيهِ مُسَامَحَة وَإِنَّمَا خرجوه على قَول الْعَامَّة فِي لون السوَاد وَمعنى يجمع الْبَصَر أَنه يقبضهُ فِي دَاخل النَّاظر وَيمْنَع من انتشاره وَمن تشكل المرئيات وَإِذا هَذَا معنى الْقَبْض بِلَا شكّ فَهُوَ معنى منع الْبَصَر والإدراك وكفه وَمن هَذَا سمى المكفوف مكفوفاً فَإِذا السوَاد يمْنَع الْبَصَر من الانتشار ويقبضه عَن الانبساط ويكفه عَن الْإِدْرَاك وَهَذَا كُله معنى وَاحِد وَإِن اخْتلفت الْعبارَات فِي بَيَانه فالسواد بِلَا شكّ غير مرئي إِذْ لَو رؤى لم يقبض خطّ الْبَصَر إِذْ لَا رُؤْيَة إِلَّا بامتداد الْبَصَر فَإذْ هُوَ غير مرئي فالسواد لَيْسَ لوناً إِذْ اللَّوْن مرئي وَلَا بُد وَمَا لم ير فَلَيْسَ لوناً وَهَذَا برهَان عَقْلِي ضَرُورِيّ وبرهان آخر حسي وَهُوَ أَن الظلمَة إِذا أطبقت فَلَا فرق حِينَئِذٍ بَين المفتوح الْعَينَيْنِ السَّالِم النظرين وَبَين الْأَعْمَى المنطبق والمسدود الْعَينَيْنِ سداً أَو كفا فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فالظلمة لَا ترى وَمن الْبَاطِل الْمُمْتَنع أَن تكون ترى الظلمَة وبالحس نعلم أَن المنطبق الْعَينَيْنِ فِيهَا بِمَنْزِلَة وَاحِدَة من عدم الرُّؤْيَة وَمَعَ المفتوح الْعَينَيْنِ فِيهَا والظلمة هِيَ السوَاد نَفسه فَمن ادّعى أَنَّهُمَا متغايران فقد كَابر العينان وَادّعى مَالا يَأْتِي عَلَيْهِ بِدَلِيل أبدا وَنحن نجد أَن لَو فتح فِي حَائِط بَيت مغلق كوتان ثمَّ جعل على أحداهما ستر أسود وَتركت الْأُخْرَى مكشوفة لما فرق النَّاظر من بعد بَينهمَا أصلا وَلَو جعل على أحداهما ستر أَحْمَر أَو أصفر أَو أَبيض لتبين ذَلِك للنَّاظِر يَقِينا من بعد أَو قرب وَهَذَا بَيَان أَن السوَاد والظلمة سَوَاء وبرهان آخر حسي وَهُوَ أَن خطوط الْبَصَر إِذا اسْتَوَت فَلَا بُد من أَن تقع على شَيْء مَا لم يقف فِيهِ مَانع من تماديها وَنحن نشاهد من بَين يَدَيْهِ ظلمَة أَو هُوَ فِيهَا لَا يَقع بَصَره على حَائِط إِن كَانَ فِي الظلمَة وَسَوَاء كَانَ فِيهَا حَائِط مَانع من تمادي خطّ الْبَصَر أَو لم يكن فصح يَقِينا أَن الظلمَة لَا ترى بل هِيَ مَانِعَة من الرُّؤْيَة والظلمة هِيَ السوَاد والسواد هُوَ الظلمَة لم يخْتَلف قطّ فِي هَذَا اثْنَان لَا بطبيعة وَلَا بشريعة وَلَا فِي معنى اللُّغَة وَلَا بِالْمُشَاهَدَةِ فقد صَحَّ أَن السوَاد لَا يرى أصلا وَأَنه لَيْسَ لوناً
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِنَّمَا وَقع الْغَلَط على من ظن أَن السوَاد يرى لِأَنَّهُ أحس بِوُقُوع خطوط الْبَصَر على مَا حوالي الشَّيْء الْأسود من سَائِر الألوان فَعلم بتوسط إِدْرَاكه مَا حوالي الْأسود أَن بَين تِلْكَ النهايات شَيْئا خَارِجا عَن تِلْكَ الألوان فَقدر أَنه يرَاهُ وَمن هَا هُنَا عظم غلط جمَاعَة ادعوا بظنونهم من الْجِهَة الَّتِي ذكرنَا أَنهم يرَوْنَ الحركات والسكون فِي الأجرام وَالْأَمر فِي كل ذَلِك وَفِي الْأسود وَاحِد وَلَا فرق فَإِن قَالَ قَائِل أَنه إِن كَانَ فِي جسم الْأسود زِيَادَة ناتئة سَوْدَاء كَسَائِر جسده رأيناها فَلَو لم تَرَ لم تعلم بنتوء تِلْكَ الْهَيْئَة الناتئة لَهُ على سطح جسده قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا أَيْضا وهم لِأَنَّهُ لما لم يَمْتَد خطّ الْبَصَر عِنْد قبض تِلْكَ الْهَيْئَة الناتئة لَهُ وامتدت سَائِر الخطوط إِلَى أبعد من تِلْكَ الْمسَافَة وَعلمت النَّفس بذلك توهم من لم يُحَقّق أَن هَذِه رُؤْيَة وَلَيْسَت كَذَلِك وتوهموا أَيْضا أَنهم يرَوْنَ السوَاد ممازجا لحمرة أَو لغبرة أَو لخضرة أَو لصفرة أَو لزرقة فَإِذا كَانَ هَكَذَا فَإِن الْبَصَر يرى مَا فِي ذَلِك السَّطْح من هَذِه الألوان على حسب قوتها وضعفها فَقَط فيتوهمون من ذَلِك أَنهم رَأَوْا السوَاد ويتوهمون أَيْضا أَنهم يرونه لأَنهم قَالُوا نَحن نميز الْأسود الْبراق البصيص واللمعان من الْأسود إِلَّا كدر الغليظ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَكَان يَنْبَغِي أَن نتثبت فِيهِ فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الأملاس