أَن يُعَارض أَحدهمَا بِالْآخرِ لِأَن كليهمَا من عِنْد الله عز وَجل وَمَا كَانَ من عِنْد الله فَلَيْسَ بمختلف قَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَإذْ كل هَذِه الْآيَات حق فقد ثَبت أَن للْإنْسَان اسْم يَقع على النَّفس دون الْجَسَد وَيَقَع أَيْضا على الْجَسَد دون النَّفس وَيَقَع أَيْضا على كليهمَا مُجْتَمعين فَنَقُول فِي الْحَيّ هَذَا إِنْسَان وَهُوَ مُشْتَمل على جَسَد وروح ونقول للْمَيت هَذَا إِنْسَان وَهُوَ جَسَد لَا نفس فِيهِ ونقول أَن الْإِنْسَان يعذب قبل يَوْم الْقِيَامَة وينعم يَعْنِي النَّفس دون الْجَسَد وَأما من قَالَ أَنه لَا يَقع إِلَّا على النَّفس والجسد مَعًا فخطأ يُبطلهُ الَّذِي ذكرنَا من النُّصُوص الَّتِي فِيهَا وُقُوع اسْم الْإِنْسَان على الْجَسَد دون النَّفس وعَلى النَّفس دون الْجَسَد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي الْجَوَاهِر والأعراض وَمَا الْجِسْم وَمَا النَّفس
قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْبَاب فَذهب هِشَام بن الحكم إِلَى أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم إِلَّا جسم وَأَن الألوان والحركات أجسام وَاحْتج أَيْضا بِأَن الْجِسْم إِذا كَانَ طَويلا عريضاً عميقاً فَمن حَيْثُ وجدته وجدت اللَّوْن فِيهِ فَوَجَبَ الطول وَالْعرض والعمق للون أَيْضا فَإِذا وَجب ذَلِك للون فاللون أَيْضا طَوِيل عريض عميق وكل طَوِيل عريض عميق جسم فاللون جسم وَذهب إِبْرَاهِيم بن سيار النظام إِلَى مثل هَذَا سَوَاء سَوَاء إِلَّا الحركات فَإِنَّهُ قَالَ هِيَ خَاصَّة أَعْرَاض وَذهب ضرار بن عَمْرو إِلَى أَن الْأَجْسَام مركبة من الْأَعْرَاض وَذهب سَائِر النَّاس إِلَى أَن الْأَجْسَام هِيَ كل مَا كَانَ طَويلا عريضاً عميقاً شاغلاً لمَكَان وَإِن كل مَا عداهُ من لون أَو حَرَكَة أَو مذاق أَو طيب أَو محبَّة فَعرض وَذهب بعض الْمُلْحِدِينَ إِلَى نفي الْأَعْرَاض وَوَافَقَهُمْ على ذَلِك بعض أهل الْقبْلَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما الْجِسْم فمتفق على وجوده وَأما الْأَعْرَاض فإثباتها بَين وَاضح بعون الله تَعَالَى وَهُوَ أننا لم نجد فِي الْعَالم إِلَّا قَائِما بِنَفسِهِ حَامِلا لغيره أَو قَائِما بِغَيْرِهِ لَا بِنَفسِهِ مَحْمُولا فِي غَيره وَوجدنَا الْقَائِم بِنَفسِهِ شاغلاً لمَكَان يملأه وَوجدنَا الَّذِي لَا يقوم بِنَفسِهِ لكنه مَحْمُول فِي غَيره لَا يشغل مَكَانا بل يكون الْكثير مِنْهَا فِي مَكَان حاملها الْقَائِم بِنَفسِهِ هَذِه قسْمَة لَا يُمكن وجود شَيْء فِي الْعَالم بِخِلَافِهَا وَلَا وجود قسم زَائِد على مَا ذكرنَا فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فبالضرورة علمنَا أَن الْقَائِم بِنَفسِهِ الشاغل لمكانه هُوَ نوع آخر غير الْقَائِم بِغَيْرِهِ الَّذِي لَا يشغل مَكَانا فَوَجَبَ أَن يكون لكل وَاحِد من هذَيْن الجنسين اسْم يعبر عَنهُ ليَقَع التفاهم بَيْننَا فاتفقا على أَن سمينا الْقَائِم بِنَفسِهِ الشاغل لمكانه جسماً واتفقا على أَن سمينا مَا لَا يقوم بِنَفسِهِ عرضا وَهَذَا بَيَان برهاني مشَاهد وَوجدنَا الْجِسْم تتعاقب عَلَيْهِ الألوان والجسم قَائِم بِنَفسِهِ فَبينا نرَاهُ أَبيض صَار أَخْضَر ثمَّ أَحْمَر ثمَّ أصفر كَالَّذي نشاهده فِي الثِّمَار والأصباغ فبالضرورة نعلم أَن لذِي عدم وفني من الْبيَاض والخضرة وَسَائِر الألوان هُوَ غير الَّذِي بَقِي مَوْجُودا لم يفن وأنهما جَمِيعًا غير الشَّيْء الْحَامِل لَهما لِأَنَّهُ لَو كَانَ شَيْء من ذَلِك هُوَ الآخر لعدم بِعَدَمِهِ فَدلَّ بَقَاؤُهُ بعده على أَنه غَيره وَلَا بُد إِذْ من الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون الشَّيْء مَعْدُوما مَوْجُودا فِي حَالَة وَاحِدَة فِي مَكَان وَاحِد فِي زمَان وَاحِد وَأَيْضًا فَإِن الْأَعْرَاض هِيَ الْأَفْعَال من الْأكل وَالشرب وَالنَّوْم وَالْجِمَاع وَالْمَشْي وَالضَّرْب وَغير ذَلِك فَمن أنكر الْأَعْرَاض فقد أثبت الفاعلين وأبطل الْأَفْعَال وَهَذَا محَال لَا خفا بِهِ وَلَا فرق بَين من أثبت الفاعلين وَنفى الْأَفْعَال وَبَين من أثبت الْأَفْعَال وَنفى الفاعلين وكل الطَّائِفَتَيْنِ مبطلة لما يُشَاهد بالحواس وَيدْرك بِالْعقلِ سوفسطائيون حَقًا لِأَن من الْأَعْرَاض مَا يدْرك بالبصر وَهُوَ اللَّوْن إِذْ مَا لَا لون لَهُ لَا يدْرك بالشم كالنتن وَالطّيب وَمِنْهَا مَا يدْرك بالذوق كالحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة وَمِنْهَا مَا يدْرك باللمس كَالْحرِّ وَالْبرد وَمِنْهَا مَا يدْرك بِالسَّمْعِ كحسن الصَّوْت وقبحه وجهارته وجفوته وَمِنْهَا مَا يدْرك بِالْعقلِ كالحركة والحمق وَالْعقل