بَاب مَا الِاسْتِطَاعَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِن الْكَلَام على حكم لَفْظَة قبل تَحْقِيق مَعْنَاهَا وَمَعْرِفَة المُرَاد بهَا وَعَن أَي شَيْء يعبر بذكرها طمس للوقوف على حَقِيقَتهَا فَيَنْبَغِي أَولا أَن نوقف على معنى الِاسْتِطَاعَة فَإِذا تكلمنا عَلَيْهِ وقررناه بحول الله تَعَالَى وقوته سهل الإشراف على صَوَاب هَذِه الْأَقْوَال من خطئها بعون الله تَعَالَى وتأييده فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد إِن من قَالَ أَن الِاسْتِطَاعَة هِيَ المستطيع قَول فِي غَايَة الْفساد وَلَو كَانَ لقائله أقل علم باللغة الْعَرَبيَّة ثمَّ بحقائق الْأَسْمَاء والمسميات ثمَّ بماهية الْجَوَاهِر والأعراض لم يقل هَذَا السخف أما اللُّغَة فَإِن الِاسْتِطَاعَة إِنَّمَا هِيَ مصدر اسْتَطَاعَ يَسْتَطِيع استطاعة والمصدر هُوَ فعل الْفَاعِل وَصفته كالضرب الَّذِي هُوَ فعل الضَّارِب والحمرة الَّتِي هِيَ صفة الْأَحْمَر والاحمرار الَّذِي هُوَ صفة المحمر وَمَا أشبه هَذَا وَالصّفة وَالْفِعْل عرضان بِلَا شكّ فِي الْفَاعِل منا وَفِي الْمَوْصُوف والمصادر هِيَ أَحْدَاث المسمين بالأسماء بِإِجْمَاع من أهل كل لِسَان فَإِذا كَانَت الِاسْتِطَاعَة فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نتكلم نَحن وهم إِنَّمَا هِيَ صفة فِي المستطيع فبالضرورة نعلم أَن الصّفة هِيَ غير الْمَوْصُوف لِأَن الصِّفَات تتعاقب عَلَيْهِ فتمضي صفة وَتَأْتِي أُخْرَى فَلَو كَانَت الصّفة هِيَ الْمَوْصُوف لَكَانَ الْمَاضِي من هَذِه الصِّفَات هُوَ الْمَوْصُوف الْبَاقِي وَلَا سَبِيل إِلَى غير هَذَا الْبَتَّةَ فَإذْ لَا شكّ فِي أَن الْمَاضِي هُوَ غير الْبَاقِي فالصفات هِيَ غير الْمَوْصُوف بهَا وَمَا عدا هَذَا فَهُوَ من الْمحَال والتخليط فَإِن قَالُوا أَن الِاسْتِطَاعَة لَيست مصدر إستطاعة وَلَا صفة المستطيع كابروا وَأتوا بلغَة جَدِيدَة غير اللُّغَة الَّذِي نزل بهَا الْقُرْآن وَالَّتِي لَفْظَة الِاسْتِطَاعَة الَّتِي فِيهَا نتنازع إِنَّمَا هِيَ كلمة من تِلْكَ اللُّغَة وَمن أحَال شَيْئا من الْأَلْفَاظ اللُّغَوِيَّة عَن وضوعها فِي اللُّغَة بِغَيْر نَص محيل لَهَا وَلَا بِإِجْمَاع من أهل الشَّرِيعَة فقد فَارق حكم أهل الْعُقُول وَالْحيَاء وَصَارَ فِي نِصَاب من لَا يتَكَلَّم مَعَه وَلَا يعجز أحد أَن يَقُول الصَّلَاة لَيست مَا تعنون بهَا وَإِنَّمَا هِيَ أَمر كَذَا وَالْمَاء هُوَ الْخمر وَفِي هَذَا بطلَان الْحَقَائِق كلهَا وَأَيْضًا فإننا نجد الْمَرْء مستطيعاً ثمَّ نرَاهُ غير مستطيع لخدر عرض فِي أَعْضَائِهِ أَو لتكتيف وَضبط أَو لإغماء وَهُوَ بِعَيْنِه قَائِم لم ينتقص مِنْهُ شَيْء فصح بِالضَّرُورَةِ أَن الَّذِي عدم من الِاسْتِطَاعَة هُوَ غير المستطيع الَّذِي كَانَ وَلم يعْدم هَذَا أَمر يعرف بِالْمُشَاهَدَةِ والحس وَبِهَذَا أيقنا أَن الِاسْتِطَاعَة عرض من الْأَعْرَاض تقبل الأشد والأضعف فَنَقُول استطاعة أَشد من استطاعة واستطاعة أَضْعَف من استطاعة وَأَيْضًا فَأن الِاسْتِطَاعَة لَهَا ضد وَهُوَ الْعَجز والأضداد لَا تكون إِلَّا أعراضاً تقتسم طرفِي الْبعد كالخضرة وَالْبَيَاض وَالْعلم وَالْجهل وَالذكر وَالنِّسْيَان وَمَا أشبه هَذَا وَهَذَا كُله أَمر يعرف بِالْمُشَاهَدَةِ وَلَا يُنكره إِلَّا أعمى الْقلب والحواس ومعاند مكابر للضَّرُورَة والمستطيع جَوْهَر والجوهر لَا ضد لَهُ فصح بِالضَّرُورَةِ إِن الِاسْتِطَاعَة هِيَ غير المستطيع بِلَا شكّ وَأَيْضًا فَلَو كَانَت الِاسْتِطَاعَة هِيَ المستطيع لَكَانَ الْعَجز أَيْضا هُوَ الْعَاجِز وَالْعَاجِز هُوَ المستطيع بالْأَمْس فعلى هَذَا يجب أَن الْعَجز هُوَ المستطيع فَإِن تَمَادَوْا على هَذَا لَزِمَهُم أَن الْعَجز عَن الْأَمر هُوَ الِاسْتِطَاعَة عَلَيْهِ وَهَذَا محَال ظَاهر فَإِن قَالُوا إِن الْعَجز غير المستطيع وَهُوَ آفَة دخلت على المستطيع سئلوا عَن الْفرق الَّذِي من أَجله