ذَلِكَ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ
(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَاهَنَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَاهَنَةِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ، وَقَدْ تَجِبُ)
اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْمُدَاهَنَةِ مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُحِبُّونَ مِنْ الْقَوْلِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] أَيْ هُمْ يَوَدُّونَ لَوْ أَثْنَيْت عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ، وَيَقُولُونَ لَك مِثْلَ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُدَاهَنَةٌ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَشْكُرُ ظَالِمًا عَلَى ظُلْمِهِ أَوْ مُبْتَدِعًا عَلَى بِدْعَتِهِ أَوْ مُبْطِلًا عَلَى إبْطَالِهِ وَبَاطِلِهِ فَهِيَ مُدَاهَنَةٌ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ لِتَكْثِيرِ ذَلِكَ الظُّلْمِ وَالْبَاطِلِ مِنْ أَهْلِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّا لَنَشْكُرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ يُرِيدُ الظَّلَمَةَ وَالْفَسَقَةَ الَّذِينَ يُتَّقَى شَرُّهُمْ، وَيُتَبَسَّمُ فِي وُجُوهِهِمْ وَيُشْكَرُونَ بِالْكَلِمَاتِ الْحَقَّةِ فَإِنَّ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَفِيهِ صِفَةٌ تُشْكَرُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَنْحَسِ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُ ذَلِكَ اسْتِكْفَاءً لِشَرِّهِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ مُبَاحًا، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ بِهِ الْقَائِلُ لِدَفْعِ ظُلْمٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مُحَرَّمَاتٍ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَيَكُونُ الْحَالُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إنْ كَانَ وَسِيلَةً لِمَنْدُوبٍ أَوْ مَنْدُوبَاتٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا إنْ كَانَ عَنْ ضَعْفٍ لَا ضَرُورَةَ تَتَقَاضَاهُ بَلْ خَوْرٌ فِي الطَّبْعِ أَوْ يَكُونُ وَسِيلَةً لِلْوُقُوعِ فِي مَكْرُوهٍ فَانْقَسَمَتْ الْمُدَاهَنَةُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَظَهَرَ - حِينَئِذٍ - الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَقَدْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ كُلَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــSذَلِكَ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ) قُلْت: مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا مَانِعَ مِنْ الدُّعَاءِ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ أَيْ الْمَعْلُومِ الْحُصُولِ؛ إذْ ذَلِكَ مُرَادُهُ هُنَا، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ: إنَّ ذَلِكَ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَدْعُو لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِالْمَغْفِرَةِ» مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا لَهُ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَدْعُوَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ، أَوْ يَدْعُوَ لَهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحُصُولِ شَرْطِ التَّكْفِيرِ وَالْغُفْرَانِ، وَهُوَ الْوَفَاةُ عَلَى الْإِيمَانِ.
وَجَمِيعُ مَا قَالَ فِي الْفَرْقِ بَعْدَهُ، وَهُوَ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ الْحَادِي وَالسَّبْعِينَ وَالْمِائَتَيْنِ صَحِيحٌ أَوْ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ التَّبَايُنُ الْكُلِّيُّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْدِ عَلَى الثَّانِي مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الْمُتَقَدِّمِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ وَالزُّهْدُ هُوَ الْأَعَمُّ فَلْيُتَأَمَّلْ بِإِمْعَانٍ وَفِي الْعَزِيزِيِّ بَعْدَ مَا رَوَاهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَمَّا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا أُعْطِيت شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ إرْشَادٌ يَعْنِي انْتَفِعْ بِهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْمَبْذُولِ عِلْمُ حِلِّهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْعَلْقَمِيِّ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ حِلَّهُ اُسْتُحِبَّ الْقَبُولُ وَإِنْ عَلِمَ حُرْمَتَهُ حَرُمَ الْقَبُولُ، وَإِنْ شَكَّ فَالِاحْتِيَاطُ رَدُّهُ، وَهُوَ الْوَرَعُ. اهـ. قَالَ الْحِفْنِيُّ: أَوْ مِنْ الشُّبْهَةِ لَكِنْ مَحِلُّهُ إنْ لَمْ يُعَارِضْهُ حُبُّ الثَّنَاءِ كَأَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ زَاهِدٌ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ حِينَئِذٍ أَخَّرَ مِنْ قَبُولِهِ اهـ وَفِي الْعَزِيزِيِّ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ قَرْضًا فَأَهْدَى إلَيْهِ طَبَقًا فَلَا يَقْبَلُهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِهِ فَلَا يَرْكَبُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ» الْمُرَادُ أَهْدَى إلَيْهِ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يُرْكِبَهُ دَابَّتَهُ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مَتَاعًا لَهُ فَلَا يَرْكَبُهَا أَيْ لَا يَسْتَعْمِلُهَا بِرُكُوبٍ وَلَا غَيْرِهِ قَالَ الْعَلْقَمِيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنَزُّهِ وَالْوَرَعِ أَيْ فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (وَصْلٌ) فِي ثَلَاثِ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
اخْتَلَفَ الْأَصْلُ وَابْنُ الشَّاطِّ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ هَلْ يُعَدُّ مِنْ الْوَرَعِ أَوْ لَا يُعَدُّ مِنْهُ فَذَهَبَ الْأَصْلُ إلَى أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْهُ، وَقَالَ: فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فِعْلٍ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ، أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُجْزِئَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ، أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ حَذَرًا مِنْ الْعِقَابِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَفِعْلُ الْمَكْرُوهِ لَا يَضُرُّهُ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ، وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَمَالِكٌ يَقُولُ: لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: هِيَ مَشْرُوعَةٌ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِتَيَقُّنِ الْخُلُوصِ مِنْ إثْمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَكَالْبَسْمَلَةِ قَالَ مَالِكٌ: هِيَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْعِقَابُ مُتَوَقَّعٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا