فَالْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] أَيْ لَا تَتَمَنَّوْا زَوَالَهُ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ النَّهْيِ دَالَّةٌ عَلَى هَذَا الْحَذْفِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ» أَيْ لَا غِبْطَةَ إلَّا فِي هَاتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا» وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ الْغِبْطَةِ بِلَفْظِ الْحَسَدِ كَالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَيُقَالُ: إنَّ الْحَسَدَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهَا فِي الْأَرْضِ حَسَدَ إبْلِيسُ آدَمَ فَلَمْ يَسْجُدْ لَهُ

(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكِبْرِ وَقَاعِدَةِ التَّجَمُّلِ بِالْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)

اعْلَمْ أَنَّ الْكِبْرَ لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى أَعْدَائِهِ حَسَنٌ، وَعَلَى عِبَادِهِ وَشَرَائِعِهِ حَرَامٌ وَكَبِيرَةٌ، قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْكِبْرِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَحَدَنَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً فَقَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاسِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: بَطَرُ الْحَقِّ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ وَغَمْصُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ، وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَعِيدٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي أَنَّ الْكِبْرَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَعَدَمَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ مُطْلَقًا

ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــQغَيْرِ الْبِدَعِ لَا تَظْهَرُ فِي الْبِدَعِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبِدَعَ ثَبَتَ لَهَا أَمْرَانِ

(أَحَدُهُمَا) أَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِلشَّارِعِ وَمُرَاغَمَةٌ لَهُ حَيْثُ نَصَّبَ الْمُبْتَدِعُ نَفْسَهُ نَصْبَ الْمُسْتَدْرِكِ عَلَى الشَّرِيعَةِ لَا نَصْبَ الْمُكْتَفِي بِمَا حُدَّ لَهُ

(وَالثَّانِي) : أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ - وَإِنْ قَلَّتْ - تَشْرِيعٌ زَائِدٌ أَوْ نَاقِصٌ أَوْ تَغْيِيرٌ لِلْأَصْلِ الصَّحِيحِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الِانْفِرَادُ، وَقَدْ يَكُونُ مُلْحَقًا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فَيَكُونُ قَادِحًا فِي الْمَشْرُوعِ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا فِي نَفْسِ الشَّرِيعَةِ عَدَا الْكُفْرَ؛ إذْ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا أَوْ التَّغْيِيرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ كُفْرٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَلَّ مِنْهُ، وَمَا كَثُرَ فَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ أَوْ بِرَأْيٍ غَالِطٍ رَآهُ وَأَلْحَقَهُ بِالْمَشْرُوعِ، فَإِذَا لَمْ نُكَفِّرْهُ لَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِهِ فَرْقٌ بَيْنَ مَا قَلَّ مِنْهُ وَمَا كَثُرَ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَا تَحْمِلُهَا الشَّرِيعَةُ لَا بِقَلِيلٍ، وَلَا بِكَثِيرٍ لَا سِيَّمَا.

وَعُمُومُ الْأَدِلَّةِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، وَكَلَامُ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الذَّمِّ فِيهَا فَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ بِدْعَةٍ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى مُجَاوَزَةِ حُدُودِ اللَّهِ بِالتَّشْرِيعِ إلَّا أَنَّهَا.

وَإِنْ عَظُمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ تَتَفَاوَتُ رُتَبُهَا إذَا نُسِبَ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فَيَكُونُ مِنْهَا صِغَارٌ وَكِبَارٌ أَمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ بَعْضٍ فَالْأَشَدُّ عِقَابًا أَكْبَرُ مِمَّا دُونَهُ.

وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ فَوْتِ الْمَطْلُوبِ فِي الْمَفْسَدَةِ فَكَمَا انْقَسَمَتْ الطَّاعَةُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ إلَى الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ لِانْقِسَامِ مَصَالِحِهَا إلَى الْكَامِلِ وَالْأَكْمَلِ انْقَسَمَتْ الْبِدَعُ لِانْقِسَامِ مَفَاسِدِهَا إلَى الرَّذْلِ وَالْأَرْذَلِ إلَى الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مِنْ بَابِ النَّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ كَبِيرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فَلَا يُنْظَرُ إلَى خِفَّةِ الْأَمْرِ فِي الْبِدْعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صُورَتِهَا، وَإِنْ دَقَّتْ بَلْ يُنْظَرُ إلَى مُصَادَمَتِهَا لِلشَّرِيعَةِ وَرَمْيِهَا لَهَا بِالنَّقْصِ وَالِاسْتِدْرَاكِ وَأَنَّهَا لَمْ تَكْمُلْ بَعْدُ حَتَّى يُوضَعَ فِيهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِتَنْقِيصٍ، وَلَا غَضٍّ مِنْ جَانِبِهَا بَلْ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ يَتَنَصَّلُ مِنْهَا مُقِرًّا لِلَّهِ بِمُخَالَفَتِهِ لِحُكْمِهَا فَحَاصِلُ الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا مُخَالَفَةٌ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُعْتَقَدُ صِحَّتُهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَحَاصِلُ الْبِدْعَةِ مُخَالَفَةٌ فِي اعْتِقَادِ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] إلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ وَمِثْلُهَا جَوَابُهُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمَدِينَةِ.

وَقَالَ: أَيُّ فِتْنَةٍ فِيهَا إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا، فَقَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّك فَعَلْت فِعْلًا قَصَرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ فَإِذًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْبِدَعِ مَا هُوَ صَغِيرَةٌ بَلْ صَارَ اعْتِقَادُ الصَّغَائِرِ فِيهَا يَكَادُ يَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ كَمَا صَارَ اعْتِقَادُ نَفْيِ الْكَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهَ عَنْهَا مِنْ الْوَاضِحَاتِ، وَإِلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ أَعْنِي تَعَدُّدَ حُكْمِ الْبِدَعِ مَالَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ: إنَّ الْبِدَعَ.

وَإِنْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَنِسْبَتُهُ إلَى الضَّلَالَةِ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ هُوَ التَّحْرِيمُ فَقَطْ، أَوْ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ لِوُجُوهٍ

(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ فَالْبِدَعُ كَذَلِكَ

(وَالْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ الْبِدَعَ إذَا تُؤُمِّلَ مَعْقُولُهَا وُجِدَتْ مُتَفَاوِتَةً فَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136] الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139]

طور بواسطة نورين ميديا © 2015