وقَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258] أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فَلَوْ كَانَ النُّمْرُودُ فَقِيرًا حَقِيرًا مُبْتَلًى بِالْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ لَمْ تَحْتَدَّ نَفْسُهُ إلَى مُنَازَعَةِ إبْرَاهِيمَ وَدَعْوَاهُ الْإِحْيَاءَ أَوْ الْإِمَاتَةَ، وَتَعَرُّضِهِ لِإِحْرَاقِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالنِّيرَانِ، وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْمَعَاطِبِ وَالْمَهَالِكِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَلِكٌ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْكُفَّارِ {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] وَفِي الْأَنْبِيَاءِ الْآيَةُ الْأُخْرَى {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمُبَادِرِينَ إلَى تَصْدِيقِهِمْ إنَّمَا هُمْ الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ، وَأَعْدَاءُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمُعَانِدُوهُمْ هُمْ الْأَغْنِيَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} [سبأ: 34] وَلَمْ يَقُلْ إلَّا قَالَ فُقَرَاؤُهَا فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمْ الْأَقَلُّونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَالْأَقَلُّونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمْ الْأَكْثَرُونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ فَهَذَا وَجْهُ مَا كَانَ السَّلَفُ يَعْتَمِدُونَهُ مِنْ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَهُوَ وَجْهُ لُزُومِ الذَّمِّ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّوَكُّلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَرْكِ الْأَسْبَابِ)
اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ الْتَبَسَ هَاتَانِ الْقَاعِدَتَانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ فِي عِلْمِ الرَّقَائِقِ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إلَّا مَعَ تَرْكِ الْأَسْبَابِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَغَيْرِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَاجِبَةً أَوْ الْمَنْدُوبَ كَانَتْ مَنْدُوبَةً أَوْ الْمَكْرُوهَ كَانَتْ مَكْرُوهَةً أَوْ الْمُبَاحَ كَانَتْ مُبَاحَةً، وَبِالْجُمْلَةِ فَتَقْسِيمُ الْبِدْعَةِ مَعَ السُّنَّةِ عَلَى نَحْوِ تَقْسِيمِ النَّحْوِيِّينَ حَرْفَ الْجَرِّ الْأَصْلِيِّ مَعَ الزَّائِدِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَصْلِيٌّ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ وَاحْتَاجَ لِمُتَعَلَّقٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَزَائِدٌ، وَهُوَ مَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ، وَلَا يَحْتَاجُ لِمُتَعَلَّقٍ وَشَبِيهٌ بِهِمَا، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ، وَلَمْ يَحْتَجْ لِمُتَعَلَّقٍ فَكَمَا انْقَسَمَ حَرْفُ الْجَرِّ إلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ الْبِدْعَةُ مَعَ السُّنَّةِ تَنْقَسِمُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إلَى ثَلَاثَةٍ: سُنَّةٌ، وَهِيَ مَا فُعِلَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَشَهِدَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، وَبِدْعَةٌ، وَهُوَ مَا لَمْ يُفْعَلْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ الْأَصْلُ.
وَمُشْتَبِهَاتٌ، وَهُوَ مَا لَمْ يُفْعَلْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَشَهِدَ لَهُ الْأَصْلُ وَتَوْضِيحُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّ مَا يَحْرُمُ وَيُنْهَى عَنْهُ مِنْ الْبِدَعِ هُوَ الْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ الْقَبِيحَةِ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ الصَّادِقَةِ عَلَى الْمُحَرَّمَةِ وَعَلَى الْمَكْرُوهَةِ وَأَنَّ مَا لَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْهَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ الصَّادِقَةِ عَلَى الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالْمُبَاحَةِ وَقَوْلُ الْأَصْلِ: وَالْأَصْحَابُ - فِيمَا رَأَيْت - مُتَّفِقُونَ عَلَى إنْكَارِ الْبِدَعِ إلَخْ هُوَ طَرِيقَةُ نَفْيِ التَّفْصِيلِ فِي الْبِدَعِ، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ وَاجِبَةً، وَلَا مَنْدُوبَةً، وَلَا مُبَاحَةً بَلْ إنَّمَا تَكُونُ قَبِيحَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا فَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَتَيْنِ
(الْجِهَةُ الْأُولَى) أَنَّ أَمْثِلَةَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالْمُبَاحَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ وَشَيْخُهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ، وَمِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَعَنْ كَوْنِهَا مِنْ الْعَادِيَّاتِ، وَمَا كَانَ مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ، وَمِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّ خَاصَّةَ الْبِدْعَةِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَمَّا رَسَمَهُ الشَّارِعُ؛ إذْ هِيَ طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ اُبْتُدِعَتْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ تَقَدَّمَهَا تُضَاهِي الشَّرِيعَةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ فَانْفَصَلَتْ بِهَذَا الْقَيْدِ عَنْ كُلِّ مَا ظَهَرَ لِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخْتَرِعٌ مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ كَعِلْمِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ فَإِنَّهَا.
وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ فَأُصُولُهَا مَوْجُودَةٌ فِي الشَّرْعِ؛ إذْ الْأَمْرُ بِإِعْرَابِ الْقُرْآنِ مَنْقُولٌ، وَعُلُومُ اللِّسَانِ هَادِيَةٌ لِلصَّوَابِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَحَقِيقَتُهَا إذًا أَنَّهَا فِقْهُ التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا كَيْفَ تُؤْخَذُ وَتُؤَدَّى، وَأُصُولُ الْفِقْهِ إنَّمَا مَعْنَاهَا اسْتِقْرَاءُ كُلِّيَّاتِ الْأَدِلَّةِ حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ نَصْبَ عَيْنٍ، وَعِنْدَ الطَّالِبِ سَهْلَةَ الْمُلْتَمَسِ، وَكَذَلِكَ أُصُولُ الدِّينِ، وَهُوَ عِلْمُ الْكَلَامِ إنَّمَا حَاصِلُهُ تَقْرِيرٌ لِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا فِي التَّوْحِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَا كَانَ الْفِقْهُ تَقْرِيرَ الْأَدِلَّةِ فِي الْفُرُوعِ الْعَبَّادِيَّةِ، وَتَصْنِيفُهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَرَعًا إلَّا أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ فَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ فَالشَّرْعُ بِجُمْلَتِهِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا فَعَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ خَادِمٌ لِلشَّرِيعَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ أَدِلَّتِهَا الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْخُوذَةٍ مِنْ جُزْءٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ أَلْبَتَّةَ وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعُلُومُ مُبْتَدَعَاتٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي عِلْمِ الْبِدَعِ كَانَتْ قَبِيحَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِ إشْكَالٍ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَتْبُ الْمُصْحَفِ، وَجَمْعُ الْقُرْآنِ قَبِيحًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَيْسَ إذًا بِبِدْعَةٍ وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَلَيْسَ إلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ جُزْءٌ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ ثَبَتَ مُطْلَقُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى عِلْمُ النَّحْوِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ، أَوْ عِلْمُ الْأُصُولِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ بِدْعَةً أَصْلًا