الدَّالُّ عَلَى دُخُولِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ هَذَا أَمْرٌ لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا غَيْرَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَوَقُّعِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَاعِيِّ الْقَطْعِيِّ، وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» فَأَطْلَقَ الْقَوْلَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَلَا تَفْصِيلٍ، وَلَا تَنْبِيهٍ عَلَى وَجْهِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يُحْفَظْ التَّنْبِيهُ فِي ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ الْخُرُوجُ عَنْ الْخِلَافِ لَا يَتَأَتَّى فِي مِثْلِ مَا مُثِّلَ بِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالِانْكِفَافِ عَنْهُ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَلِّلِ وَإِنْ انْكَفَّ عَنْهُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَرِّمِ فَأَيْنَ الْخُرُوجُ عَنْ الْخِلَافِ إنَّمَا ذَلِكَ عَمَلٌ عَلَى وَفْقِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ لَا خُرُوجٌ عَنْ الْمَذْهَبَيْنِ، وَمِثَالُهُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَمْنُوعٌ أَوْ مَكْرُوهٌ عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ، فَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ انْكَفَّ فَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَا قَالَهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَعَدَمِهَا مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَا مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو دِينَارٌ، وَقَالَتْ الْأُخْرَى: لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ؛ لِأَنَّ النَّافِيَةَ مَعْنَى نَفْيِهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ شَيْئًا أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ، وَلَيْسَ مَعْنَى نَفْيِهَا أَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَتَعَذَّرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْأَزْمِنَةِ كَمَا اقْتَضَى اعْتِبَارُهُ حُسْنَ النَّسْخِ كَذَلِكَ يَقْتَضِيهِ هَاهُنَا فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَتَمَّ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِأَنْ تَكُونَ مَصْلَحَةُ زَمَانِهِمْ كَانَتْ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَخْرُجَ عَيْنُ مَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ يَدِهِ إمَّا لِقِلَّةِ الْأَعْيَانِ، وَإِمَّا لِعَدَمِ ضَرَرِ الْحَاجَةِ أَوْ لِعَدَمِ الزَّكَاةِ لِلْفُقَرَاءِ بِأَنْ تُقَدَّمَ لِلنَّارِ الَّتِي تَأْكُلُ الْقُرْبَانِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَتَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْأُخْرَى بِاعْتِبَارِ زَمَانِنَا أَتَمَّ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِتَغَيُّرِ الْمَصْلَحَةِ.
(التَّنْبِيهُ الثَّانِي) الْمُرَادُ بِالشَّهَادَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] الْعِلْمُ لَا بِمَعْنَى الْمُكَافَأَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور: 64] {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] وَنَحْوَهُ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ لَيْسَ سِيَاقَ تَهْدِيدٍ أَوْ تَرْغِيبٍ حَتَّى يَكُونَ الْمُرَادُ ذَلِكَ بَلْ بِمَعْنَاهُ وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ لَا التَّمَدُّحُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَمَدَّحُ بِالْعِلْمِ الْجُزْئِيِّ بَلْ الْفَائِدَةُ التَّمَدُّحُ بِأَحْكَامِ التَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ وَضَبْطِهِ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ إنَّمَا وَرَدَتْ لِتَقْرِيرِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ السُّورَةِ حِكَايَةً عَنْ الْكُفَّارِ {هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء: 3] فَبَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ لِيُبَيِّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لَيْسَ بِدُعَاءٍ مِنْ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ يُفَضِّلُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ حُكْمِهِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ غَفْلَةً بَلْ عَنْ عِلْمٍ وَكَذَلِكَ فَهْمُ سُلَيْمَانَ دُونَ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ غَفْلَةً بَلْ نَحْنُ عَالِمُونَ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى ضَبْطِ التَّصَرُّفِ وَإِحْكَامِهِ فَكَمَا أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ إذَا قَالَ عَرَضْتُ عَنْ زَيْدٍ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِحُضُورِهِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ التَّمَدُّحَ بِأَعْلَمُ بَلْ بِإِحْكَامِ التَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ كَذَلِكَ هَهُنَا، هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ الْبِدَايَةِ وَالتَّبْصِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا خَرَجَ عَنْ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا بَقِيَ عَلَى الْمُسَاوَاةِ) وَهُوَ أَنَّ مَا خَرَجَ الْقِصَاصُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِيهِ هُوَ مَا يُؤَدِّي اشْتِرَاطُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ إلَى تَعْطِيلِ الْقِصَاصِ قَطْعًا أَوْ غَالِبًا، وَلَهُ مُثُلٌ أَحَدُهَا أَجْزَاءُ الْأَعْضَاءِ وَسُمْكُ اللَّحْمِ فِي الْجَانِي إذْ لَوْ اُشْتُرِطَ التَّسَاوِي فِيهَا لَمَا حَصَلَ الْقِصَاصُ إلَّا نَادِرًا وَثَانِيهَا مَنَافِعُ الْأَعْضَاءِ وَثَالِثُهَا الْعُقُولُ وَرَابِعُهَا قُلْتُ إذْ لَوْ اُشْتُرِطَ التَّسَاوِي فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمَا حَصَلَ الْقِصَاصُ أَصْلًا أَوْ لَمَا حَصَلَ إلَّا نَادِرًا وَخَامِسُهَا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَقَطْعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ إذْ لَوْ اُشْتُرِطَتْ الْوَاحِدَةُ لِتَسَاوِي الْأَعْدَاءُ بِبَعْضِهِمْ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ وَسَادِسُهَا الْحَيَاةُ الْيَسِيرَةُ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ مَعَ الشَّابِّ، وَمَنْفُوذُ الْمَقَاتِلِ عَلَى الْخِلَافِ وَسَابِعُهَا تَفَاوُتُ الصَّنَائِعِ وَالْمَهَارَةِ فِيهَا.
قُلْتُ إذْ لَوْ اُشْتُرِطَ التَّسَاوِي فِي هَذَيْنِ لَمَا حَصَلَ الْقِصَاصُ أَصْلًا أَوْ لَمَا حَصَلَ إلَّا نَادِرًا، وَمَا بَقِيَ الْقِصَاصُ فِيهِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ هُوَ مَا لَا يُؤَدِّي اشْتِرَاطُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ إلَى ذَلِكَ كَالْجِرَاحَاتِ فِي الْجَسَدِ فَيَجْرِي عَلَى الْأَصْلِ فِي الْقِصَاصِ فَإِنَّ أَصْلَهُ مِنْ الْقَصِّ الَّذِي هُوَ الْمُسَاوَاةُ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَّ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ بَقِيَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمِنْ ثَمَّ قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي تَعْرِيفَاتِهِ الْقِصَاصُ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِالْفَاعِلِ مِثْلَ مَا فَعَلَ اهـ.
وَهَاهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ. (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) فِي قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَتْلُهُمْ بِهِ إذَا قَتَلُوهُ عَمْدًا أَوْ تَعَاوَنُوا عَلَى قَتْلِهِ بِالْحِرَابَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يُقْتَلَ النَّاظُورُ. وَعُمْدَتُهُمْ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ وَقَتَلَ عَلِيٌّ ثَلَاثَةً، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَلَمْ يُعْرَفْ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الثَّانِي أَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَجِبُ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَمَا تَجِبُ لَهُ عَلَى الْوَاحِدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَتُفَارِقُ الدِّيَةَ فَإِنَّهَا تَتَبَعَّضُ دُونَ الْقِصَاصِ