(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْغِيبَةِ وَقَاعِدَةِ النَّمِيمَةِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ) أَمَّا الْغِيبَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا وَإِنَّمَا حَرُمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ إفْسَادِ الْأَعْرَاضِ، وَالنَّمِيمَةُ أَنْ يَنْقُلَ إلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِأَذَاهُ فَحَرُمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ إلْقَاءِ الْبِغْضَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا النَّصِيحَةُ فَيَقُولُ لَهُ إنْ فُلَانًا يَقْصِدُ قَتْلَك وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْغِيبَةِ وَالْهَمْزُ تَعْيِيبُ الْإِنْسَانِ بِحُضُورِهِ وَاللَّمْزُ هُوَ تَعْيِيبُهُ بِغَيْبَتِهِ فَتَكُونُ هِيَ الْغِيبَةُ وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزُّهْدِ وَقَاعِدَةِ ذَاتِ الْيَدِ)
اعْلَمْ أَنَّ الزُّهْدَ لَيْسَ عَدَمَ الْمَالِ بَلْ عَدَمُ احْتِفَالِ الْقَلْبِ بِالدُّنْيَا وَالْأَمْوَالِ فَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ فَقَدْ يَكُونُ الزَّاهِدُ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَهُوَ زَاهِدٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَفِلٍ بِمَا فِي يَدِهِ، وَبَذْلُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ بَذْلِ الْفَلْسِ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّدِيدُ الْفَقْرِ غَيْرَ زَاهِدٍ بَلْ فِي غَايَةِ الْحِرْصِ لِأَجْلِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالزُّهْدُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَاجِبٌ، وَفِي الْوَاجِبَاتِ حَرَامٌ، وَفِي الْمَنْدُوبَاتِ مَكْرُوهٌ، وَفِي الْمُبَاحَاتِ مَنْدُوبٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً؛ لِأَنَّ الْمَيْلَ إلَيْهَا يُفْضِي لِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فَتَرْكُهَا مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ الْمَنْدُوبَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــSوَمَا قَالَ فِي الْفَرْقِ الْخَامِسِ وَالْخَمْسِينَ وَالْمِائَتَيْنِ صَحِيحٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّهُ مُحَتَّمٌ، وَالْمُحَتَّمُ آكَدُ مِنْ الْمُخَيَّرِ فِيهِ.
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّخْيِيرَ يَدْخُلُ فِي التَّعَاذِيرِ مُطْلَقًا، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْحُدُودِ إلَّا فِي الْحِرَابَةِ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْهَا فَقَطْ وَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ. (أَحَدُهَا) مَا فِي قَوْلِ أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ وَتَعَيَّنَ قَتْلُهُ إنْ قَتَلَ. (وَثَانِيهَا) مَا فِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ إنْ طَالَ أَمْرُهُ، وَأَخَذَ الْمَالَ، وَلَمْ يُقْتَلْ بِحَدٍّ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ يُقْتَلُ، وَلَا يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ غَيْرَ الْقَتْلِ. اهـ (وَثَالِثُهَا) مَا فِي التَّبْصِرَةِ عَنْ الْبَاجِيَّ قَالَ أَشْهَبُ فِي الَّذِي أَخَذَ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ هَذَا الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ لَوْ أَخَذَ فِيهِ بِأَيْسَرِ ذَلِكَ قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُجْلَدَ وَيُنْفَى وَيُحْبَسَ حَيْثُ نُفِيَ إلَيْهِ. اهـ بِلَفْظِهِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّخْيِيرِ هَاهُنَا الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِشَرْطِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَى مَا يَتَحَتَّمُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ مِمَّا أَدَّتْ إلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ لَا التَّخْيِيرُ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ إذْ لَا إبَاحَةَ هَاهُنَا أَلْبَتَّةَ، وَلَا التَّخْيِيرُ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِهَوَاهُ وَإِرَادَتِهِ كَيْفَ خَطَرَ لَهُ وَلَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَمَّا شَاءَ وَيَقْبَلَ مِنْهَا مَا شَاءَ فَإِنَّ هَذَا هَاهُنَا فُسُوقٌ وَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الشَّرِيعَةِ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. (أَحَدِهِمَا) الْإِبَاحَةُ الْمُطْلَقَةُ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَتَرْكِهَا. (وَثَانِيهِمَا) الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ وَتَحْتَهُ نَوْعَانِ. (الْأَوَّلُ) انْتِقَالٌ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِشَرْطِ الِاجْتِهَادِ لِيُؤَدِّيَ إلَى مَا تَعَيَّنَ سَبَبُهُ وَأَدَّتْ الْمَصْلَحَةُ إلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ كَتَصَرُّفَاتِ الْوُلَاةِ فَمَتَى قُلْنَا الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي صَرْفِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ فِي أُسَارَى الْعَدُوِّ أَوْ الْمُحَارِبِينَ أَوْ فِي التَّعْزِيرِ كَانَ مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ (وَالنَّوْعُ الثَّانِي) انْتِقَالٌ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِهَوَاهُ وَإِرَادَتِهِ كَيْفَ خَطَرَ لَهُ وَلَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَمَّا شَاءَ وَيَقْبَلَ مَا شَاءَ مِنْ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ، وَهَذَا نَوْعَانِ أَيْضًا. (الْأَوَّلُ) تَخَيُّرٌ مُتَأَصِّلٌ بِمَعْنَى انْتِقَالٍ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِهَوَاهُ أَصَالَةً لَا عُرُوضًا كَمَا فِي تَخْيِيرِ الْمُكَفِّرِ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ بَيْنَ أَنْوَاعِهَا الْوَاجِبَةِ بِهَوَاهُ وَالثَّانِي تَخْيِيرٌ جَرَّ إلَيْهِ الْحُكْمُ بِمَعْنَى انْتِقَالٍ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ بِهَوَاهُ لَا أَصَالَةً بَلْ عُرُوضًا بِحَسَبِ مَا جَرَّ إلَيْهِ الْحُكْمُ كَمَا فِي تَخْيِيرِ السَّاعِي بَيْنَ أَخْذِ أَرْبَعِ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسِ بَنَاتٍ لَبُونٍ فِي صَدَقَةِ الْإِبِلِ فَإِنَّ الْإِمَامَ هَاهُنَا يَتَخَيَّرُ كَمَا يَتَخَيَّرُ الْمُكَفِّرُ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ إلَّا أَنَّ هَذَا تَخْيِيرٌ أَدَّتْ إلَيْهِ الْأَحْكَامُ وَفِي الْحِنْثِ تَخْيِيرٌ مُتَأَصِّلٌ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ التَّخْيِيرَاتِ وَاحْتَفِظْ عَلَيْهَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ.
(الْوَجْهُ الثَّامِنُ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعَهُ وَالْجِنَايَةِ فَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْعِظَمِ وَالصِّغَرِ وَبِحَسَبِ الْجَانِي فِي الشَّرِّ وَعَدَمِهِ. اهـ. أَيْ وَبِحَسَبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الشَّرَفِ وَعَدَمِهِ وَفِيهَا أَيْضًا بُعْدٌ، أَنَّ التَّعَاذِيرَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الذُّنُوبِ، وَمَا يُعْلَمُ مِنْ حَالِ الْمُعَاقَبِ مِنْ جَلَدِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى يَسِيرِهَا أَوْ ضَعْفِهِ عَنْ ذَلِكَ وَانْزِجَارِهِ إذَا عُوقِبَ بِأَقَلِّهَا. اهـ. وَالْحُدُودُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ فَاعِلِهَا.
(الْوَجْهُ التَّاسِعُ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحُدُودَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ فَرُبَّ تَعْزِيرٍ فِي عَصْرٍ يَكُونُ إكْرَامًا فِي عَصْرٍ آخَرَ وَرُبَّ تَعْزِيرٍ فِي بِلَادٍ يَكُونُ إكْرَامًا فِي بَلَدٍ آخَرَ كَقَلْعِ الطَّيْلَسَانِ بِمِصْرَ تَعْزِيرٌ وَفِي الشَّامِ إكْرَامٌ وَكَكَشْفِ الرَّأْسِ عِنْدَ الْأَنْدَلُسِ لَيْسَ هَوَانًا وَبِالْعِرَاقِ وَمِصْرَ هَوَانٌ. (الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَتَنَوَّعُ إلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الصِّرْفِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ أَوْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ