الشَّرِيعَةِ كَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَتَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْ لَا يَصْلُحُ لَهَا بِطَرِيقِ التَّوَارُثِ وَجَعْلِ الْمُسْتَنَدِ لِذَلِكَ كَوْنُ الْمَنْصِبِ كَانَ لِأَبِيهِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِأَهْلٍ
(الْقِسْمُ الثَّالِثُ) مِنْ الْبِدَعِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ النَّدْبِ وَأَدِلَّتُهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَإِقَامَةِ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِعَظَمَةِ الْوُلَاةِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ مُعْظَمُ تَعْظِيمِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ وَسَابِقِ الْهِجْرَةِ ثُمَّ اخْتَلَّ النِّظَامُ وَذَهَبَ ذَلِكَ الْقَرْنُ وَحَدَثَ قَرْنٌ آخَرُ لَا يُعَظِّمُونَ إلَّا بِالصُّوَرِ فَيَتَعَيَّنُ تَفْخِيمُ الصُّوَرِ حَتَّى تَحْصُلَ الْمَصَالِحُ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحَ وَيَفْرِضُ لِعَامِلِهِ نِصْفَ شَاةٍ كُلَّ يَوْمٍ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا لَوْ عَمِلَهَا غَيْرُهُ لَهَانَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَلَمْ يَحْتَرِمُوهُ وَتَجَاسَرُوا عَلَيْهِ بِالْمُخَالَفَةِ فَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَضَعَ غَيْرَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى لِحِفْظِ النِّظَامِ؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَوَجَدَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ اتَّخَذَ الْحُجَّابَ وَأَرْخَى الْحِجَابَ، وَاِتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ النَّفِيسَةَ وَالثِّيَابَ الْهَائِلَةَ الْعَلِيَّةَ، وَسَلَكَ مَا يَسْلُكُهُ الْمُلُوكُ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّا بِأَرْضٍ نَحْنُ فِيهَا مُحْتَاجُونَ لِهَذَا فَقَالَ لَهُ لَا آمُرُك، وَلَا أَنْهَاك وَمَعْنَاهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِحَالِك هَلْ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا فَيَكُونُ حَسَنًا أَوْ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَالْقُرُونِ وَالْأَحْوَالِ فَلِذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إلَى تَجْدِيدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ. قَالَ: وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَبَيْنَ مَسَائِلِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ تِلْكَ اعْتَقَدَ فِيهَا الْمُقْدِمُ عَلَيْهَا اقْتِرَانَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ فَأَوْقَعَتْ الْإِبَاحَةَ فِيهَا قَبْلَ سَبَبِهَا فَالْمُقْدِمُ فِي هَاتِهِ مُصِيبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنْ الْمَرَضِ وَالْحَيْضِ وَصَيْرُورَةِ الْخَمْرِ خَلًّا وَالْعَقْدِ عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مُبِيحٌ، وَمُخْطِئٌ فِي التَّقَدُّمِ لِلْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ، وَالْمُقْدِمُ فِي تِلْكَ مُخْطِئٌ فِي حُصُولِ السَّبَبِ مُصِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ الْمُقَارَنَةَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَقْدِيمَ الْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ فَعُذِرَ بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ فِي تِلْكَ، وَلَمْ يُعْذَرْ فِي هَاتِهِ بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ تَقَدُّمَ الْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ بُطْلَانُهُ مَشْهُورٌ غَيْرُ مُلْتَبِسٍ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَا صَلَاةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا صَوْمَ قَبْلَ الْهِلَالِ، وَلَا عُقُوبَةَ قَبْلَ الْجِنَايَاتِ وَهُوَ كَثِيرٌ لَا يُعَدُّ، وَلَا يُحْصَى حَتَّى لَا يَكَادُ يُوجَدُ خِلَافُهُ أَلْبَتَّةَ، وَمَا هُوَ مَشْهُورٌ لَا يَكُونُ اللَّبْسُ فِيهِ عُذْرًا، وَأَمَّا اشْتِبَاهُ صُورَةِ الْأَسْبَابِ الْمُبِيحَةِ وَتَحْقِيقُ شُرُوطِهَا، وَمَقَادِيرِهَا فَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا فُحُولُ الْفُقَهَاءِ وَتَحْقِيقُهُ عَسِيرٌ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ فَكَانَ اللَّبْسُ فِيهِ عُذْرًا.
قَالَ وَحَدِيثُ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ إلَّا أَنَّ مُعْتَمَدَنَا فِيهَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ أَنَّهُ حَيْثُ أَجْمَعْنَا عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ كَانَ سَالِمًا عَنْ الشُّبْهَةِ، وَمَا قَصُرَ عَنْ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ لَا يَلْحَقُ بِهِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ حَتَّى يَدُلَّ بِدَلِيلِ عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ فِي صُوَرِ الشُّبُهَاتِ. اهـ. وَهُوَ حَسَنٌ هَذَا تَهْذِيبُ مَا فِي الْأَصْلِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْقَذْفِ إذَا وَقَعَ مِنْ الزَّوْجِ الْوَاحِدِ لِزَوْجَاتِهِ الْمُتَعَدِّدَاتِ يَتَعَدَّدُ اللِّعَانُ بِتَعَدُّدِهِنَّ قَذَفَهُنَّ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجْلِسَيْنِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْجَمَاعَةِ يَقْذِفُهُمْ الْوَاحِدَ يَتَّحِدُ الْحَدُّ فِيهِ عِنْدَنَا) . فَإِنْ قَامَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ سَقَطَ كُلُّ قَذْفٍ قَبْلَهُ وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلَّهِ فَصَحَّ التَّدَاخُلُ فِيهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ أَوْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَوْلَانِ عِنْدَهُمَا وَبَنَيَا ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَيَتَعَدَّدُ وَعِنْدَنَا فِي أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْعَبْدِيُّ وَاللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَكَانَ يَلْزَمُنَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَنَا قَوْلَانِ بِالتَّعَدُّدِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ وَبِالِاتِّحَادِ كَمَا قُلْنَا نَحْنُ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّ حُجَّتَنَا عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الِاتِّحَادِ وُجُوهٌ.
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ «هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ الْعَجْلَانِيَّ رَمَى امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاء فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدٌّ فِي ظَهْرِك أَوْ تَلْتَعِنُ» ، وَلَمْ يَقُلْ حَدَّانِ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَلَدَ الشُّهُودَ عَلَى الْمُغِيرَةِ حَدًّا وَاحِدًا مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَذَفَ الْمُغِيرَةَ وَالْمَزْنِيَّ بِهَا. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ) «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَدّ قَذَفَةَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَعَ أَنَّهُمْ قَذَفُوا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَصَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطِّلِ. (الْوَجْهُ الرَّابِعُ) الْقِيَاسُ عَلَى حَدِّ الزِّنَا.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّ احْتِجَاجَهُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَذْفِ الزَّوْجِ لِزَوْجَاتِهِ الْأَرْبَعِ يَحْتَاجُ لِلْعَانَاتِ أَرْبَعٍ مَدْفُوعٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِوُجُوهٍ. (الْأَوَّلِ) أَنَّ اللِّعَانَ أَيْمَانٌ وَالْأَيْمَانُ لَا تَتَدَاخَلُ فَلَوْ وَجَبَ لِجَمَاعَةٍ أَيْمَانٌ لَمْ تَتَدَاخَلْ بِخِلَافِ الْحُدُودِ. (الثَّانِي) أَنَّ أَحْكَامَ اللِّعَانِ لَمَّا تَعَدَّدَتْ وَاخْتَلَفَتْ وَهِيَ تَوَجُّهُ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ وَانْتِفَاءُ النَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ وَتَأَبُّدُ التَّحْرِيمِ وَوُقُوعُ الْفُرْقَةِ أَمْكَنَ ثُبُوتُ