هُوَ أَقْرَبُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا، وَالْعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ تُوَضِّحُ الْأُولَى الْمُدَّعِي مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى خِلَافِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى وَفْقِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالْمِثْلِ أَنَّ الْيَتِيمَ إذَا بَلَغَ، وَطَلَبَ الْوَصِيَّ بِمَا لَهُ تَحْتَ يَدِهِ فَقَالَ أَوْصَلْتُك فَإِنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَالْوَصِيُّ الْمَطْلُوبُ مُدَّعٍ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْأَوْصِيَاءَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْيَتَامَى إذَا دَفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَلَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى الدَّفْعِ بَلْ عَلَى التَّصَرُّفِ وَالْإِنْفَاقِ خَاصَّةً، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ الدَّفْعِ، وَهُوَ يُعَضِّدُ الْيَتِيمَ، وَيُخَالِفُ الْوَصِيَّ فَهَذَا طَالِبٌ، وَالْيَمِينُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَالْوَصِيُّ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ مُدَّعٍ، وَكَذَلِكَ طَالِبُ الْوَدِيعَةِ الَّتِي سَلَّمَهَا لِلْمُودِعِ عِنْدَ بَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْ الْمُودَعَ عِنْدَهُ لَمَّا أَشْهَدَ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ مَعَ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ طَالِبًا لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُودَعِ عِنْدَهُ لَمَّا قَبَضَ بِبَيِّنَةِ أَنَّهُ لَا يُعْطِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ.
وَالْأَصْلُ أَيْضًا عَدَمُ الدَّفْعِ فَاجْتَمَعَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ، وَهُمَا يُعَضِّدَانِ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ، وَيُخَالِفَانِ الْقَابِضَ لَهَا، وَكَذَلِكَ الْقِرَاضُ إذَا قُبِضَ بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ قُبِضَتْ الْوَدِيعَةُ أَوْ الْقِرَاضُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ وَالْمُودَعِ عِنْدَهُ لِأَنَّ يَدَهُمَا يَدُ أَمَانَةٍ صِرْفَةً، وَالْأَمِينُ مُصَدَّقٌ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ يَكُونُ الطَّالِبُ فِيهَا مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَيَعْتَمِدُ أَبَدًا التَّرْجِيحُ بِالْعَوَائِدِ وَظَوَاهِرِ الْأَحْوَالِ وَالْقَرَائِنِ فَيَحْصُلُ لَك مِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهُ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إذَا تَدَاعَى بَزَّازٌ وَدَبَّاغٌ جِلْدًا كَانَ الدَّبَّاغُ مُدَّعًى عَلَيْهِ أَوْ قَاضٍ وَجُنْدِيٌّ رُمْحًا كَانَ الْجُنْدِيُّ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الزَّوْجَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ أَنْ يَقُولَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِيمَا يُشْبِهُ قُمَاشَ الرِّجَالِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِيمَا يُشْبِهُ قُمَاشَ النِّسَاءِ، وَإِذَا تَنَازَعَ عَطَّارٌ وَصَبَّاغٌ فِي مِسْكٍ وَصِبْغٍ قُدِّمَ الْعَطَّارُ فِي الْمِسْكِ وَالصَّبَّاغُ فِي الصِّبْغِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَذَلِكَ خَالَفَنَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ كُلِّهَا، وَحُجَّتُنَا النُّصُوصُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَأَمَّا الْأَصْلُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ ظَاهِرٍ وَلَا عُرْفٍ فَمَنْ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ دَيْنًا أَوْ غَصْبًا أَوْ جِنَايَةً وَنَحْوَهَا فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ يُعَضِّدُهُ، وَيُخَالِفُ الطَّالِبَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الظَّوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَظَهَرَ لَك بِهَذَا قَوْلُ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ أَضْعَفُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا.
(تَنْبِيهٌ) مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الظَّوَاهِرِ يَنْتَقِضُ بِمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنْ أَنَّ الصَّالِحَ التَّقِيَّ الْكَبِيرَ الْعَظِيمَ الْمَنْزِلَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اجْتِمَاعُ الشُّرُوطِ وَالْأَسْبَابِ وَانْتِفَاءُ الْمَوَانِعِ وَقَاعِدَةُ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مُقَارَنَةُ شُرُوطِهِ وَأَسْبَابِهِ وَانْتِفَاءُ مَوَانِعِهِ)
وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا فِي مُعَامَلَةٍ يُشْتَرَطُ حَالَ وُقُوعِهِ مُقَارَنَةُ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يَنْشَأُ مِنْهُ مِنْ اجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ وَالْأَسْبَابِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ، وَمَا كَانَ دَلِيلُ تَقَدُّمِ سَبَبٍ لِمُعَامَلَةٍ لَا يُشْتَرَطُ حَالَ وُقُوعِهِ مُقَارَنَةُ شُرُوطِ ذَلِكَ الْمُسَبِّبِ وَأَسْبَابِهِ وَانْتِفَاءُ مَوَانِعِهِ (وَالْأَوَّلُ) هُوَ الْإِنْشَاءَاتُ كُلُّهَا كَالْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَشَأْنُ الْإِنْشَاءَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي جَمِيعِ مَا يَنْشَأُ مِنْهَا مُقَارَنَةُ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ حَالَةَ الْإِنْشَاءِ.
(وَالثَّانِي) هُوَ الْإِقْرَارَاتُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا حُضُورُ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمُقَرِّ بِهِ حَالَةَ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ بِهِ بَلْ هُوَ دَلِيلُ تَقَدُّمِ السَّبَبِ لِاسْتِحْقَاقِهِ فِي زَمَنٍ سَابِقٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مَعَ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ الشَّرْعِيِّ فَمَنْ قَالَ هُوَ يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ دِينَارًا مِنْ ثَمَنِ دَابَّةٍ حَمَلْنَا هَذَا الْإِقْرَارَ عَلَى تَقَدُّمِ بَيْعٍ صَحِيحٍ عَلَى الْأَوْضَاعِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَاتٍ تَقْبَلُ الْبَيْعَ لَا خَمْرٍ وَلَا خِنْزِيرٍ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْفَرْقِ تَتَفَرَّعُ مَسْأَلَتَانِ.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَالَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إذَا بَاعَهُ بِدِينَارٍ، وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةُ السِّكَّةِ تَعَيَّنَ الْغَالِبُ مِنْهَا هُنَا لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِدِينَارٍ فِي بَلَدٍ، وَفِيهَا نَقْدٌ غَالِبٌ لَا يَتَعَيَّنُ الْغَالِبُ بَلْ يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ فِي إقْرَارِهِ بِأَيِّ سِكَّةٍ ذَلِكَ الدِّينَارُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدَّمَ السَّبَبُ لِاسْتِحْقَاقِ الدِّينَارِ فَلَعَلَّ السَّبَبَ وَاقِعٌ فِي بَلَدٍ آخَرَ فِي زَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ تَقَدُّمًا كَثِيرًا، وَالْغَالِبُ حِينَئِذٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَفِي ذَلِكَ الْبَلَدِ سِكَّةُ غَيْرِ هَذَا الْغَالِبِ الْمُتَجَدِّدِ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْغَالِبِ الْوَاقِعِ قَبْلَهُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ يَتْبَعُ زَمَنَ وُقُوعِ السَّبَبِ لَا زَمَنَ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَهَكَذَا جَمِيعُ النَّظَائِرِ الَّتِي تَكُونُ الشُّرُوطُ فِيهَا فَائِتَةً حَالَةَ الْإِقْرَارِ، وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ زَمَنُ وُقُوعِ السَّبَبِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمَجْنُونُ الْآنَ