بِيَوْمٍ غَيْرِ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ نَاسِيًا يَصِلُهُ بِآخِرِ صِيَامِهِ تَكْمِلَةً لِلْعِدَّةِ لَا لِتَحْصِيلِ وَصْفِ التَّتَابُعِ فِي جَمِيعِ الصَّوْمِ، بَلْ فِي آخِرِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ قَدْ تَعَذَّرَ فَأَفْطَرَ نَاسِيًا وَبَقِيَ تَحْصِيلُهُ فِي آخِرِهِ مُمْكِنًا فَوَجَبَ الْمُمْكِنُ وَسَقَطَ الْمُتَعَذِّرُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ وَأَنْوَاعِ الصَّوْمِ الْمُتَتَابِعِ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
(مَسْأَلَةٌ) قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا تَطَوَّعَ بِالصَّوْمِ أَوْ بِالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ وَعَرَضَ عَارِضٌ يَقْتَضِي فَسَادَهُ نَاسِيًا أَوْ مُجْتَهِدًا لَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَإِنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا أَوْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى قَاعِدَةِ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ مَعَ أَنَّ قَاعِدَةَ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ تَقْتَضِي الْقَضَاءَ مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَصَوْمَ رَمَضَانَ يَقْضِيهِمَا إذَا فَسَدَا بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ فَكَانَ يَلْزَمُهُ هُنَا كَذَلِكَ وَهُوَ إشْكَالٌ كَبِيرٌ فَإِنَّ الْوَاجِبَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حَالُهُ
(وَالْجَوَابُ) عَنْهُ أَنَّ وُجُوبَ التَّطَوُّعَاتِ عِنْدَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] نَهَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ الْإِبْطَالِ، فَيَكُونُ الْإِكْمَالُ وَاجِبًا مُكَلَّفًا بِهِ وَالتَّكْلِيفُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَجِبُ الْإِتْمَامُ حَالَةَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ كَذَلِكَ.
وَإِذَا تَعَمَّدَ الْإِفْسَادَ انْدَرَجَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ فِي التَّكْلِيفِ لِحُصُولِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ «اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ» وَكَانَتَا عَامِدَتَيْنِ لِإِفْسَادِ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQيَشْهَدُ لَهُ أَوَّلًا قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا
بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَثَانِيًا تَعْلِيلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَظَهْرِيَّةَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ لُزُومِهِ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَقَطْ بِمَا تَقَدَّمَ فِي عِبَارَةِ الْبُنَانِيِّ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ هُوَ مَنْشَأُ تَعْبِيرِ الْأَصْلِ فِي الْإِطْلَاقِ الثَّالِثِ بِمَا ذَكَرَ أَوْ يَقُولُ سَيَأْتِي لِلْأَصْلِ نَقْلُهُ عَلَى أَنَّ إلْزَامَ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ إنَّمَا هُوَ إذَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ غَيْرَ مُطَلِّقٍ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا قَالَ أَيْ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةِ الْبَتَّةِ أَيْ الْآتِيَةِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ
(وَصْلٌ) فِي تَوْضِيحِ هَذَا الْفَرْقِ وَاَلَّذِي قِيلَ بِمَسَائِلَ
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَوْ أَرَادَ التَّلَفُّظَ بِالطَّلَاقِ فَقَالَ اشْرَبِي أَوْ نَحْوَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْوِيَ طَلَاقَهَا بِمَا تَلَفَّظَ بِهِ فَيَجْتَمِعُ اللَّفْظُ وَالنِّيَّةُ اهـ يَعْنِي أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَصَدَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِلَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ بِأَنْ قَالَ اسْقِنِي الْمَاءَ أَوْ اُدْخُلِي أَوْ اُخْرُجِي فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ بِلَفْظٍ يُرَادُ الطَّلَاقُ بِهِ وَهُوَ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا بِنِيَّةِ اسْقِنِي أَيْ بِاسْقِنِي الْمُصَاحِبِ لِنِيَّةِ حُصُولِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَلْزَمَ الطَّلَاقُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولُهُ الِالْتِزَامِيُّ الطَّلَاقَ وَالْكِنَايَةَ اصْطِلَاحًا اُسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظِ مَعًا لَا مِنْ بَابِ الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ اللَّفْظِ حَتَّى يُقَالَ لَا يَلْزَمُ بِهَا طَلَاقٌ إجْمَاعًا اهـ.
خَرَشِيٌّ بِتَوْضِيحٍ عَلَى أَنَّهُ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِنَايَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَهِيَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ، فَلَيْسَتْ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا كِنَايَةً فَافْهَمْ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَالَ مَالِكٌ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَنِيَّتُهُ وَاحِدَةٌ فَسَبَقَ لِسَانُهُ لِلْبَتَّةِ لَزِمَهُ الثَّلَاثُ قَالَ سَحْنُونٌ إذَا كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْوِهِ قَالَ الْأَصْلُ يُرِيدُ أَيْ سَحْنُونٌ أَنَّ اللَّفْظَ وَحْدَهُ لَا يَلْزَمُ بِهِ الطَّلَاقُ وَهُوَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ نِيَّةٌ مَعَ لَفْظِ الثَّلَاثِ فَلِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ ثَلَاثٌ فِي الْفُتْيَا وَيَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ فِي الْقَضَاءِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَالَ صَاحِبُ التَّنْبِيهَاتِ يُؤْخَذُ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ مَعَ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فِي الْكِتَابِ أَيْ الْمُدَوَّنَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ تَعْلِيقَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَيْ عَدَمُ التَّعْلِيقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَهُ نَظَائِرُ قَالَ وَيَتَخَرَّجُ مِنْ قَوْلِهِ أَيْ مَالِكٍ فِي الَّذِي أَرَادَ وَاحِدَةً فَسَبَقَ لِسَانُهُ لِلْبَتَّةِ وَمِنْ هَزْلِ الطَّلَاقِ أَيْضًا إلْزَامُ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، وَكَذَا مَسْأَلَةُ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى مِنْ وَثَاقِ وِلَايَتِهِ وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا طَلُقَتْ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ بَرِّيَّةٌ وَلَمْ يَنْوِ بِهِ طَلَاقًا وَلَا يُدَيِّنُ إذْ يُؤْخَذُ النَّاسُ بِأَلْفَاظِهِمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ نِيَّتُهُمْ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَرِينَةٌ مُصَدَّقَةٌ كَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكِتَابِ، وَقِيلَ يُدَيِّنُ مُطْلَقًا اهـ بِتَصَرُّفٍ.
قَالَ الْأَصْلُ وَوَافَقَ صَاحِبَ التَّنْبِيهَاتِ عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ الْوَثَاقِ طَلَاقٌ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ اللَّخْمِيُّ مَعَ أَنَّ إلْزَامَ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ إنَّمَا هُوَ إذَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ غَيْرَ مُطَلِّقٍ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا قَالَ أَيْ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةِ الْبَتَّةِ أَمَّا إذَا صُرِفَ اللَّفْظُ بِقَصْدِهِ عَنْ إزَالَةِ الْعِصْمَةِ إلَى غَيْرِهِ نَحْوُ مَسْأَلَةِ الْوَثَاقِ فَإِلْزَامُ الطَّلَاقِ بِهِ لَوْ قِيلَ إنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَبْعُدْ؛ لِأَنَّهُ نَظِيرُ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقِيلَ لَهُ: مَا صَنَعْت فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ وَأَرَادَ الْإِخْبَارَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْفُتْيَا إجْمَاعًا وَنَظِيرُهُ أَيْضًا مَنْ لَهُ أَمَةٌ وَزَوْجَةٌ اسْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حِكْمَةُ، وَقَالَ حِكْمَةُ طَالِقٌ، وَقَالَ نَوَيْت الْأَمَةَ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ فِي الْفُتْيَا اتِّفَاقًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَثَاقِ عَلَى اللُّزُومِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الْفُتْيَا، وَقَوْلُهُ وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا وَإِنْ أَوْهَمَ اللُّزُومَ فِي الْفُتْيَا مُعَارَضٌ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ يُؤْخَذُ النَّاسُ بِأَلْفَاظِهِمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ نِيَّتُهُمْ إذْ الْأَخْذُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْحَاكِمِ