نَسْتَحْضِرُهَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ صِفَاتِهِمْ الذَّمِيمَةِ لِأَنَّ عَقْدَ الْعَهْدِ يَمْنَعُنَا مِنْ ذَلِكَ فَنَسْتَحْضِرُهَا حَتَّى يَمْنَعَنَا مِنْ الْوُدِّ الْبَاطِنِ لَهُمْ وَالْمُحَرَّمِ عَلَيْنَا خَاصَّةً وَلَمَّا أَتَى الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخَلِيفَةَ بِمِصْرَ وَجَدَ عِنْدَهُ وَزِيرًا رَاهِبًا وَسَلَّمَ إلَيْهِ قِيَادَهُ وَأَخَذَ يَسْمَعُ رَأْيَهُ وَيُنَفِّذُ كَلِمَاتِهِ الْمَسْمُومَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ.

وَكَانَ هُوَ مِمَّنْ يَسْمَعُ قَوْلَهُ فِيهِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْمُغْضَبِ وَالْوَزِيرُ الرَّاهِبُ بِإِزَائِهِ جَالِسٌ أَنْشَدَهُ:

يَا أَيَّهَا الْمَلِكُ الَّذِي جُودُهُ ... يَطْلُبُهُ الْقَاصِدُ وَالرَّاغِبُ

إنَّ الَّذِي شُرِّفْت مِنْ أَجْلِهِ ... يَزْعُمُ هَذَا أَنَّهُ كَاذِبٌ

فَاشْتَدَّ غَضَبُ الْخَلِيفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ وَأَمَرَ بِالرَّاهِبِ فَسُحِبَ وَضُرِبَ وَقُتِلَ وَأَقْبَلَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْوَلِيدِ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ بَعْدَ عَزْمِهِ عَلَى إيذَائِهِ فَلَمَّا اسْتَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ تَكْذِيبَ الرَّاهِبِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ سَبَبُ شَرَفِهِ وَشَرَفِ آبَائِهِ وَأَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ بَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى الْبُعْدِ عَنْ السُّكُونِ إلَيْهِ وَالْمَوَدَّةِ لَهُ وَأَبْعَدَهُ عَنْ مَنَازِلِ الْعِزِّ إلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ أَهِينُوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا بِالْبَصْرَةِ لَا يُحْسِنُ ضَبْطَ خَرَاجِهَا إلَّا هُوَ وَقَصَدَ وِلَايَتَهُ عَلَى جِبَايَةِ الْخَرَاجِ لِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ غَيْرِهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ فِي الْكِتَابِ مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ أَيْ افْرِضْهُ مَاتَ مَاذَا كُنْت تَصْنَعُ حِينَئِذٍ فَاصْنَعْهُ الْآنَ وَبِالْجُمْلَةِ فَبِرُّهُمْ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ مَأْمُورٌ بِهِ وَوُدُّهُمْ وَتَوَلِّيهِمْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَهُمَا قَاعِدَتَانِ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ وَالْأُخْرَى مَأْمُورٌ بِهَا وَقَدْ أَوْضَحْت لَك الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِالْبَيَانِ وَالْمَثَلِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ.

(الْفَرْقُ الْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْكَفَّارَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُسَارَى وَالتَّعْزِيرِ وَحَدِّ الْمُحَارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ)

اعْلَمْ أَنَّ إطْلَاقَ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى شَائِعٌ فِي كُتُبِهِمْ بِأَنَّ الْأُسَارَى أَمْرُهُمْ مَوْكُولٌ إلَى خِيرَةِ الْإِمَامِ، وَتَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ مَوْكُولٌ إلَى خِيرَةِ الْإِمَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ تَعْيِينُ خَصْلَةٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَوْكُولٌ إلَى خِيرَةِ الْحَانِثِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا قَاعِدَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَالتَّخْيِيرُ فِي الْكَفَّارَةِ فِي خِصَالِهَا مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ أَيِّ خَصْلَةٍ شَاءَ إلَى الْخَصْلَةِ الْأُخْرَى بِشَهْوَتِهِ وَمَا يَجِدُهُ يَمِيلُ إلَيْهِ طَبْعُهُ أَوْ مَا هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا خَيَّرَهُ بَيْنَهَا إلَّا لُطْفًا بِهِ وَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَوْ شَاءَ لَحَتَّمَ عَلَيْهِ خُصُوصَ كُلِّ خَصْلَةٍ كَمَا فَعَلَهُ فِي خِصَالِ الظِّهَارِ الْمُرَتَّبَةِ بَلْ لَهُ الْخِيرَةُ بِهَوَاهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــQ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فَكَانَ كَمَا لَوْ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو إنَّ لِي حَقًّا عَلَى خَالِدٍ يُمَاثِلُ حَقَّك يَا عَمْرُو أَوْ يُخَالِفُهُ فَخُذْهُ مِنْهُ مَكَانَ حَقِّك فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لِمَصْرِفِ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ لَا لِلْمُسْتَحِقِّ وَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ فِي جِهَةِ الْمَصْرِفِ وَالْحَلِيَّةِ كَالْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَقَدْ كُنَّا نَقُولُ إنَّ الزَّكَاةَ تُصْرَفُ إلَى الذِّمِّيِّ فَخَصَّصْنَا هَذَا الْعُمُومَ بِمَا خَصَّصَهُ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ» وَمَا فَهِمَ الْمَقْصُودَ أَحَدٌ فَهْمَ الطَّبَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ الصَّدَقَةُ لِسَدِّ خُلَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لِسَدِّ خُلَّةِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ مَأْخَذِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الْأَصْنَافِ وَتَعْدِيدِهِمْ وَاَلَّذِي جَعَلْنَاهُ فَصْلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّ الْأُمَّةَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُعْطِي كُلُّ صِنْفٍ حَظَّهُ لَمْ يَجِبْ تَعْمِيمُهُ فَكَذَلِكَ تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ مِثْلُهُ.

اهـ بِتَصَرُّفٍ مَا وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِابْنِ رُشْدٍ فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي الْقِسْمَةَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ يُؤْثِرَ بِهَا أَهْلَ الْحَاجَةِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ سَدَّ الْخُلَّةِ فَكَانَ تَعْدِيدُهُمْ فِي الْآيَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إنَّمَا وَرَدَ لِتَمْيِيزِ الْجِنْسِ أَعْنِي أَهْلَ الصَّدَقَاتِ لَا تَشْرِيكِهِمْ فِي الصَّدَقَةِ فَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمِنْ الْحُجَّةِ لِلشَّافِعِيِّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ الصُّدَائِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك حَقَّك» .

اهـ وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ النَّخَعِيّ قَالَ إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا قَسَمَهُ عَلَى الْأَصْنَافِ وَإِلَّا وَضَعَهُ فِي صِنْفٍ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ إنْ أَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِي قِسْمٍ وَإِنْ قَسَّمَ الْإِمَامُ اسْتَوْعَبَ الْأَصْنَافَ وَذَلِكَ فِيمَا قَالُوا إنَّهُ إنْ كَانَ كَثِيرًا فَلْيَعُمَّهُمْ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَانَ قَسْمُهُ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ إنْ قَسَمَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ فَأَمَّا الْإِمَامُ فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ فَيَبْحَثُ عَنْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015