بِالْمَحَبَّةِ وَهُوَ وَصْفٌ لَهَا بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ وَهِيَ إقَامَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا، وَإِرْشَادُ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ التَّبْلِيغَ وَتِلْكَ الْقُرُبَاتِ فَبَطَلَ الْوَصْفُ الْمُوجِبُ لِلتَّفْضِيلِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَرَابِعُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَيَرِدُ عَلَيْهِ سُؤَالَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِ لَا عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ
وَثَانِيهَا أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الزَّمَانِ فَيُحْمَلُ عَلَى زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكَوْنِ مَعَهُ لِنُصْرَةِ الدِّينِ وَيُعَضِّدُهُ خُرُوجُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بَعْدَ وَفَاتِهِ إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِلَادِ
وَخَامِسُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» أَيْ تَأْوِي وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ إتْيَانِ الْمُؤْمِنِينَ لَهَا بِسَبَبِ وُجُودِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا حَالَ حَيَاتِهِ فَلَا عُمُومَ لَهُ فِي الْأَزْمَانِ وَلَا بَقَاءَ لِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ بَعْدَهُ لِخُرُوجِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَخَبَرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقٌّ فَيُحْمَلُ عَلَى زَمَانٍ يَكُونُ الْوَاقِعُ فِيهِ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِصِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَسَادِسُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْأَزْمَانِ فَيُحْمَلُ عَلَى زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخُرُوجِ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا خَبَثًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَسَابِعُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا الْمَدِينَةِ وَأَمَّا مَكَّةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَفُضِّلَتْ بِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا وُجُوبُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَالْمَدِينَةُ يُنْدَبُ لِإِتْيَانِهَا وَلَا يَجِبُ.
وَثَانِيهَا أَنَّ إقَامَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَكْثَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ (ثَلَاثَ عَشْرَةَ) سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا غَيْرَ أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ تِلْكَ الْعَشَرَةَ كَانَ كَمَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَمَالُ الدِّينِ فِيهَا أَتَمَّ وَأَوْفَرَ فَلَعَلَّ سَاعَةً بِالْمَدِينَةِ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ سَنَةٍ بِمَكَّةَ، أَوْ مِنْ جُمْلَةِ الْإِقَامَةِ بِهَا
وَثَالِثُهَا فُضِّلَتْ الْمَدِينَةُ بِكَثْرَةِ الطَّارِئِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَفَضَلَتْ مَكَّةُ بِالطَّائِفِينَ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ وَلَوْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ وَصْفِ الْمَكَانِ بِصِفَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ وَالْمَعْنَى فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك بِمَا جَعَلْته فِيهَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْ إقَامَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا، وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ كَمَا يُقَالُ بَلَدٌ طَيِّبٌ أَيْ هَوَاهَا وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ أَيْ قُدِّسَ مَنْ فِيهَا، أَوْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُقَدَّسُونَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالْوَادِي الْمُقَدَّسُ أَيْ قُدِّسَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ وَالْمَلَائِكَةُ الْحَالُّونَ فِيهِ اهـ.
إذْ يَكْفِي كَوْنُهُمَا ظَاهِرَيْنِ فِي الْمَطْلُوبِ لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِمَجْمُوعِ أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ لَا بِهِمَا فَقَطْ حَتَّى يَسْقُطَا بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ فَافْهَمْ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ وَلَا حُجَّةَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُرَغِّبَةِ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ عَلَى تَفْضِيلِهَا أَمَّا دُعَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ فَلِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الْمَدْعُوِّ بِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا خُرِّجَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ مِنْ الصَّاعِ وَالْمُدِّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يُبَارَكَ لَهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ أَنْ تَكُونَ بِذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ مَكَّةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْت بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى» فَلِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ إلَى قَرْيَةٍ تُفْتَحُ مِنْهَا الْبِلَادُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَلِحَمْلِهَا عَلَى زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكَوْنُ مَعَهُ لِنُصْرَةِ الدِّينِ قَالَ الْأَصْلُ وَيُعَضِّدُهُ خُرُوجُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بَعْدَ وَفَاتِهِ إلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِلَادِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَصْبِرُ إلَخْ يَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ لَا عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ اهـ فَلَا يَتِمُّ فِي جَمِيعِهَا كَمَا.
قَالَ الرَّهُونِيُّ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّرْغِيبَ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ خَاصٌّ بِحَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ سُكْنَاهَا خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتَةٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ قَالَ وَقَوْلُهُ إنَّ مَعْنَى حَدِيثِ «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ» أَنَّ النَّاسَ يَنْتَابُونَ إلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَ نَصًّا فِي الْحَدِيثِ وَلَا ظَاهِرًا مِنْهُ وَقَدْ فُهِمَ غَيْرُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ قَالَ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ قَوْلُهُ «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» كَذَا لِأَكْثَرِهِمْ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَكَذَا قَيَّدْنَاهُ مِنْ شُيُوخِنَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَغَيْرِهَا وَكَذَا قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيُّ بِخَطِّهِ وَزَادَ فِي ابْنِ سِرَاجٍ يَأْرُزُ بِالضَّمِّ وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ كِتَابِ الْقَابِسِيِّ يَأْرُزُ بِالْفَتْحِ وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ هَكَذَا سَمِعَهُ مِنْ الْمَرْوَزِيِّ وَمَعْنَاهُ يَنْضَمُّ وَيَجْتَمِعُ وَقِيلَ يَرْجِعُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «لَيَعُودَنَّ كُلُّ إيمَانٍ إلَى الْمَدِينَةِ» اهـ مِنْهَا بِلَفْظِهَا، وَفِي الصِّحَاحِ مَا نَصُّهُ وَأَرَزَ فُلَانٌ يَأْرِزُ أَرْزًا وَأُرُوزًا إذَا تَضَامَّ وَتَقَبَّضَ مِنْ بُخْلِهِ فَهُوَ أَرُوزٌ.
ثُمَّ قَالَ وَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ الْإِسْلَامَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» أَيْ يَنْضَمُّ إلَيْهَا فَيَجْتَمِعُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فِيهَا اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ اهـ.
قُلْت: وَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ مِنْ التَّعْضِيدِ مَدْفُوعٌ بِمَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَتَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَيُفْتَحُ الشَّامُ إلَخْ وَيُفْتَحُ الْعِرَاقُ إلَخْ» قَالَ الْبَاجِيَّ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ إلَخْ لَهُمْ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ الْأَجْرِ بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا أَعْظَمُ وَأَفْضَلُ مِمَّا يَنَالُونَهُ مِنْ الْخِصْبِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ حَيْثُ يَنْتَقِلُونَ إلَيْهِ مِنْ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ اهـ.
وَمَا فِي الْمُوَطَّإِ أَيْضًا.