بِسَبَبِ فَرْطِ قُوَّتِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13] وَلَهُمْ قُوَّةُ التَّنَقُّلِ عَلَى التَّصَوُّرِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ أَرَادُوا فَتَقْبَلُ بِنْيَتُهُمْ التَّنَقُّلَ إلَى الْحَيَّاتِ وَالْكِلَابِ وَالْبَهَائِمِ وَصُوَرِ بَنِي آدَمَ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا مَعَ جَوْدَةِ الْبِنْيَةِ وَلَطَافَةِ التَّرْكِيبِ وَبِنْيَتُنَا نَحْنُ لَا تَقْبَلُ شَيْئًا مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّا خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ شَأْنُهُ الثُّبُوتُ وَالرَّصَافَةُ وَالدَّوَامُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَخُلِقُوا مِنْ نَارٍ شَأْنُهَا التَّحَرُّكُ وَسُرْعَةُ الِانْتِقَالِ وَاللَّطَافَةُ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي غَرَّ إبْلِيسَ فَأَوْجَبَ لَهُ الْكِبْرَ عَلَى آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - وَتَرْكَ أَنَّ اللَّهَ يُفَضِّلُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فَجَاءَ بِالِاعْتِرَاضِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهَلَكَ.

وَثَالِثُهَا تَفْضِيلُ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ فَإِنَّ بِنْيَةَ الذَّهَبِ مُلْتَزَّةٌ مُتَدَاخِلَةٌ، وَبِنْيَةَ الْفِضَّةِ مُتَفَشْفِشَةٌ رَخْوَةٌ وَسَبَبُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَحَدِّثُونَ عَنْ الْمَعَادِنِ أَنَّ طَبْخَ الذَّهَبِ طَالَ تَحْتَ الْأَرْضِ بِحَرِّ الشَّمْسِ أَرْبَعَةَ آلَافِ سَنَةٍ، وَالْفِضَّةُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا ذَلِكَ فَكَانَ بِنْيَةُ الذَّهَبِ أَفْضَلَ مِنْ بِنْيَةِ الْفِضَّةِ.

(الْقَاعِدَةُ الْعِشْرُونَ) التَّفْضِيلُ بِاخْتِيَارِ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَلِمَا يَشَاءُ عَلَى مَا يَشَاءُ فَيُفَضِّلُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى الْآخَرِ كَتَفْضِيلِ شَاةِ الزَّكَاةِ عَلَى شَاةِ التَّطَوُّعِ وَتَفْضِيلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَاخِلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الْفَاتِحَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ حَجِّ الْفَرْضِ عَلَى تَطَوُّعِهِ وَالْأَذْكَارِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مِثْلِهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ فِي أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ.

فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّفْضِيلِ قَدْ تَتَعَارَضُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ مَنْ حَازَ أَكْثَرَهَا وَأَفْضَلَهَا وَالتَّفْضِيلُ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمَجْمُوعَاتِ وَقَدْ يَخْتَصُّ الْمَفْضُولُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ وَأَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَفْضَلُ الْجَمِيعِ وَكَاخْتِصَاصِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يُطَّلَعُ عَلَى سَبَبِ تَفْضِيلِهِ كَتَفْضِيلِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْإِيمَانِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ أَقْسَامَ تَصَرُّفِ الْعِبَادَةِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ كَالْمَعَارِفِ وَالْإِيمَانِ بِمَا يَجِبُ وَيَسْتَحِيلُ وَيَجُوزُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَثَانِيهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَقَطْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ إسْقَاطِهِ، وَإِلَّا فَكُلُّ حَقٍّ لِلْعَبْدِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ بِإِيصَالِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ.

وَثَالِثُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِلْعِبَادِ وَالْغَالِبُ مَصْلَحَةُ الْعِبَادِ كَالزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْأَمْوَالِ الْمَنْذُورَاتِ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ.

وَرَابِعُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْعِبَادِ كَالْأَذَانِ فَحَقُّهُ تَعَالَى التَّكْبِيرَاتُ وَالشَّهَادَةُ بِالتَّوْحِيدِ وَحَقُّ رَسُولِهِ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَحَقُّ الْعِبَادِ الْإِرْشَادُ لِلْأَوْقَاتِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالْمُنْفَرِدِينَ، وَالدُّعَاءُ لِلْجَمَاعَاتِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِينَ، وَالصَّلَاةُ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ الْمَقَاصِدِ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالنِّيَّةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمَا يَصْحَبُهَا مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالتُّرُوكِ وَالْكَفِّ عَنْ الْكَلَامِ وَكَثِيرِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَعَلَى حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَهُوَ دُعَاؤُهُ لِنَفْسِهِ فِي الْقِيَامِ بِالْهِدَايَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْقُنُوتُ، وَفِي السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ لِنَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّسْلِيمُ آخِرَ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَاضِرِينَ فَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ» .

الْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا يُعْلَمُ تَفْضِيلُهُ إلَّا بِالسَّمْعِ الْمَنْقُولِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ كَتَفْضِيلِ مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ، وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ فَإِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالسَّمْعِيَّاتِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا تَفْضِيلُهُ بِأُمُورٍ نَعْلَمُهَا وَأُمُورٍ لَا نَعْلَمُهَا إلَّا بِالسَّمْعِ الْمَنْقُولِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ كَتَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِنَا فَمِنْ جِهَةِ الْمَعْلُومِ بِوُجُوهٍ كَكَوْنِهَا مُهَاجَرَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَمَوْطِنَ اسْتِقْرَارِ الدِّينِ وَظُهُورِ دَعْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَدْفِنَ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَبِهَا كَمَلَ الدِّينُ وَاتَّضَحَ الْيَقِينُ وَحَصَلَ الْعِزُّ وَالتَّمْكِينُ وَكَانَ النَّقْلُ عَنْ أَهْلِهَا أَفْضَلَ النُّقُولِ وَأَصَحَّ الْمُعْتَمَدَاتِ لِأَنَّ الْأَبْنَاءَ فِيهِ يَنْقُلُونَ عَنْ الْآبَاءِ وَالْأَخْلَافُ عَنْ الْأَسْلَافِ فَيَخْرُجُ النَّقْلُ عَنْ حَيِّزِ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ إلَى حَيِّزِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَمِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ بِوُجُوهٍ.

أَحَدُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ.

وَثَانِيهَا دُعَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ

وَثَالِثُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ إنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك» وَمَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ يَكُونُ أَفْضَلَ وَالظَّاهِرُ اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَسْكَنَهُ الْمَدِينَةَ فَتَكُونُ أَفْضَلَ الْبِقَاعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَرَابِعُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

وَخَامِسُهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015