هَذَا الْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْأَفْعَالَ قِسْمَانِ مِنْهَا مَا يَشْتَمِلُ فِعْلُهُ عَلَى مَصْلَحَةٍ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ فَاعِلِهِ كَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْغُصُوبَاتِ وَتَفْرِيقِ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلُحُومِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَذَبْحِ النُّسُكِ وَنَحْوِهَا فَيَصِحُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ النِّيَابَةُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْتِفَاعُ أَهْلِهَا بِهَا وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ لِحُصُولِهَا مِنْ نَائِبِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ تُشْتَرَطُ النِّيَّاتُ فِي أَكْثَرِهَا وَمِنْهَا مَا لَا يَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً فِي نَفْسِهِ بَلْ بِالنَّظَرِ إلَى فَاعِلِهِ كَالصَّلَاةِ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهَا الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ، وَإِجْلَالُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَعْظِيمُهُ وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ فَاعِلِهَا فَإِذَا فَعَلَهَا غَيْرُ الْإِنْسَانِ فَاتَتْ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي طَلَبَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ وَلَا تُوصَفُ حِينَئِذٍ بِكَوْنِهَا مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِ فَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا إجْمَاعًا وَمِنْهَا قِسْمٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَتَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي أَيِّ الشَّائِبَتَيْنِ تُغَلَّبُ عَلَيْهِ كَالْحَجِّ فَإِنَّ مَصَالِحَهُ تَأْدِيبُ النَّفْسِ بِمُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ.
وَتَهْذِيبُهَا بِالْخُرُوجِ عَنْ الْمُعْتَادِ مِنْ الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ لِتَذَكُّرِ الْمَعَادِ وَالِانْدِرَاجِ فِي الْأَكْفَانِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ، وَإِظْهَارِ الِانْقِيَادِ مِنْ الْعَبْدِ لِمَا لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَتَهُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالسَّعْيِ
ـــــــــــــــــــــــــــــSبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْقَلْبِيَّةُ فَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي عَدَمِ صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِيهَا إلَّا مَا كَانَ مِنْ النِّيَّةِ كَإِحْجَاجِ الصَّبِيِّ، وَفِي سَائِرِ نِيَّاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا عَلَى حَسَبِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَغَيْرُ الْقَلْبِيَّةِ: فَالْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِيهَا.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ فَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ فِي عَدَمِ صِحَّتِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَالْخِلَافَ فِيمَا عَدَاهَا وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَمَا قَالَهُ شِهَابُ الدِّينِ وَجَعَلَهُ ضَابِطًا لِلْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ - مِنْ مُرَاعَاةِ كَوْنِ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ يُشْتَرَطُ فِيهَا حُصُولُهَا مِنْ النَّائِبِ كَحُصُولِهَا مِنْ الْمَنُوبِ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ تَصِحُّ - يَنْتَقِضُ بِالصَّوْمِ، فَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِيهِ، وَمَا رُجِّحَ بِهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْحَجِّ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقَيْنِ بَعْدَ هَذَا صَحِيحٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْمُبَاشَرَةِ بِالْإِتْلَافِ وَأَتْلَفَ الْحَقَّ بِالتَّسَبُّبِ فَرَتَّبَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مُقْتَضَاهُمَا وَمِنْهَا مَنْ مَرَّ عَلَى حِبَالَةٍ فَوَجَدَ فِيهَا صَيْدًا يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُهُ وَحَوْزُهُ لِصَاحِبِهِ فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ يَضْمَنُهُ لِصَاحِبِهِ عِنْدَ مَالِكٍ لِأَنَّ صَوْنَ مَالِ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الصَّوْنِ ضَمِنَ وَمِنْهَا مَنْ مَرَّ بِلُقَطَةٍ وَعَلِمَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَهَا أَخَذَهَا مَنْ يَجْحَدُهَا يَضْمَنُهَا عِنْدَ مَالِكٍ إذَا تَرَكَهَا حَتَّى تَلِفَتْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَخْذِهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا اهـ.
كَلَامُ الْبِدَايَةِ بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ مِمَّا يَأْتِي لِلْأَصْلِ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ وَمِنْ غَيْرِهِ.
وَثَالِثُهَا وَضْعُ الْيَدِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُؤْتَمَنَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَادِيَةً كَيَدِ السُّرَّاقِ وَالْغُصَّابِ وَنَحْوِهِمْ أَوْ لَيْسَتْ بِعَادِيَةٍ كَمَا فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا صَحِيحًا يَبْقَى بِيَدِ الْبَائِعِ فَيَضْمَنُهُ، أَوْ يَقْبِضُهُ الْمُشْتَرِي فَيَضْمَنُهُ أَوْ بَيْعًا فَاسِدًا يَقْبِضُهُ الْمُشْتَرِي فَيَضْمَنُهُ عِنْدَنَا فَقَطْ إذَا تَغَيَّرَ سُوقُهُ، أَوْ فِي ذَاتِهِ، أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، أَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا إذَا أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي، وَكَمَا فِي قَبْضِ الْعَوَارِيِّ وَالرُّهُونِ الَّتِي يُغَابُ عَلَيْهَا كَالْحُلِيِّ وَالسِّلَاحِ وَأَنْوَاعِ الْعُرُوضِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَكَمَا فِي قَبْضِ الْمُقْتَرِضِ الْأَعْيَانَ الَّتِي يَقْتَرِضُهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا اتِّفَاقًا وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَخَرَجَ بِقَيْدِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُؤْتَمَنَةٍ الْيَدُ الْمُؤْتَمَنَةُ كَوَضْعِ الْيَدِ فِي الْوَدَائِعِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَكَأَيْدِي الْأَوْصِيَاءِ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَالْحُكَّامِ عَلَى ذَلِكَ وَأَمْوَالِ الْغَائِبِينَ وَالْمَجَانِينِ وَكَذَا أَيْدِي الْأُجَرَاءِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ كَانَ الْأَجِيرُ صَانِعًا يُؤَثِّرُ بِصَنْعَتِهِ فِي الْأَعْيَانِ، أَوْ عَلَى حَمْلِ الطَّعَامِ الَّذِي تَتُوقُ النَّفْسُ إلَى تَنَاوُلِهِ كَالْفَوَاكِهِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ الْمَطْبُوخَةِ طَرْدًا لِقَاعِدَةِ الْأَمَانَةُ فِي الْإِجَارَةِ وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ صُورَتَيْنِ: الْأُولَى الْأَجِيرُ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْأَعْيَانِ بِصَنْعَتِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ اسْتَحْسَنَ فِيهَا أَنَّ
الْأَصْلَحَ
لِلنَّاسِ تَضْمِينُ الْأُجَرَاءِ لِأَنَّ السِّلْعَةَ إذَا تَغَيَّرَتْ بِالصَّنْعَةِ لَا يَعْرِفُهَا رَبُّهَا إذَا وَجَدَهَا قَدْ بِيعَتْ فِي الْأَسْوَاقِ.
وَالثَّانِيَةُ الْأَجِيرُ عَلَى حَمْلِ الطَّعَامِ الَّذِي تَتُوقُ النَّفْسُ إلَى تَنَاوُلِهِ فَإِنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنُ الْأَجِيرُ فِيهَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، إذَا عَلِمْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ جَمِيعَ مَا وَضْعُ الْأَيْدِي فِيهِ مُؤْتَمَنَةٌ مِنْ النَّظَائِرِ لَا ضَمَانَ فِيهِ وَهِيَ قَاعِدَةُ مَا لَا يُضْمَنُ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا وَضْعُ الْأَيْدِي فِيهِ غَيْرُ مُؤْتَمَنَةٍ مِنْ النَّظَائِرِ فِيهِ الضَّمَانُ كَمَا فِي مُبَاشَرَةِ إتْلَافِ الْمُتَمَوَّلَاتِ وَالتَّسَبُّبِ لِلْإِتْلَافِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الثَّلَاثَةَ هِيَ أَسْبَابُ الضَّمَانِ وَهِيَ قَاعِدَةُ مَا يُضْمَنُ فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ.
وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي الضَّمَانِ فَهُوَ إمَّا رَدُّ الْمَالِ بِعَيْنِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ لَمْ تَدْخُلْهُ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَإِمَّا رَدُّ مِثْلِهِ إنْ اُسْتُهْلِكَ وَكَانَ مِثْلِيًّا، أَمَّا إنْ كَانَ عُرُوضًا مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ فَقَالَ مَالِكٌ لَا يُقْضَى فِيهِ إلَّا بِالْقِيمَةِ يَوْمَ اُسْتُهْلِكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد: الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ الْمِثْلُ وَلَا تَلْزَمُ الْقِيمَةُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ وَعُمْدَةُ مَالِكٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَشْهُورُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي قِيمَةَ الْعَدْلِ» الْحَدِيثَ.
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهُ الْمِثْلَ وَأَلْزَمَهُ الْقِيمَةَ وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الشَّيْءِ قَدْ تَكُونُ هِيَ الْمَقْصُودَةَ عِنْدَ الْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ وَمَنْ الْحُجَّةِ لَهُمْ مَا خَرَّجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عِنْدَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ جَارِيَةً بِقَصْعَةٍ لَهَا فِيهَا طَعَامٌ قَالَ