عَلَى مَذْهَبِهِ لِتَسْوِيَتِهِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ إنَّمَا الْفَرْقُ عَلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ، وَقَالَ جَمَاعَةُ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي الصِّحَّةِ فِي الصَّلَوَاتِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى عَدَمِ أَمْرِ الظَّلَمَةِ بِالْقَضَاءِ إذْ صَلَّوْا بِالدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ أَيَّامَ الْعِيدَيْنِ النَّحْرِ وَالْفِطْرِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ» فَفِي الْجَوَاهِرِ لَوْ قَالَ أَصُومُ هَذِهِ السَّنَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ وَرَمَضَانَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَضَاءَ وَرُوِيَ أَنَّ نَاذِرَ ذِي الْحِجَّةِ يَقْضِي أَيَّامَ النَّحْرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ عَدَمَ الْقَضَاءِ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ قُدُومِ فُلَانٍ فَقَدِمَ فِي الْأَيَّامِ الْمُحَرَّمِ صَوْمُهَا فَالْمَنْصُوصُ نَفْيُ الْقَضَاءِ لِتَعَذُّرِهِ شَرْعًا، وَنَاذِرُ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ الْفِطْرِ أَوْ الشَّكِّ مُلْغًى كَنَذْرِ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ قَالَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُدَوَّنَةِ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَظَاهِرُ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَنْعَقِدُ قُرْبَةً فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ.
وَالصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ عِبَادَتَانِ وَالنَّهْيُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الظُّرُوفِ الَّتِي هِيَ الزَّمَانُ فِي الصَّوْمِ وَالْمَكَانُ فِي الصَّلَاةِ وَالْحُكْمُ مُخْتَلِفٌ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ كَمَا تَرَى وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ تَارَةً يَكُونُ الْعِبَادَةَ الْمَوْصُوفَةَ بِكَوْنِهَا فِي الزَّمَانِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ الْحَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ أَوْ الْبِقَاعِ أَوْ الْحَالَاتِ فَتَفْسُدُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى قَوَاعِدِنَا وَقَوَاعِدِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَتَارَةً يَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الصِّفَةُ الْعَارِضَةُ لِلْعِبَادَةِ فَلَا تَفْسُدُ الْعِبَادَةُ لِتَعَلُّقِ النَّهْيِ حِينَئِذٍ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَالْمُبَاشَرُ بِالنَّهْيِ فِي الصَّوْمِ إنَّمَا هُوَ الْمَوْصُوفُ بِكَوْنِهِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ أَوْ النَّحْرِ كَمَا تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ وَالْمُبَاشَرُ بِالنَّهْيِ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ إنَّمَا هُوَ الْغَصْبُ وَلَمْ يَرِدْ نَهْيٌ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْغَصْبِ دُونَ الصَّلَاةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْغَصْبِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الصِّفَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى الْمَوْصُوفِ وَبِالْعَكْسِ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ شُرْبُ الْخَمْرِ مَفْسَدَةٌ وَلَا يَصِحُّ أَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQفَوَجَدَتْ أَلَمًا عَظِيمًا مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ، وَتَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ أَنَّ الْبُكَاءَ وَالْعَوِيلَ كَمَا كَانَتْ الْأَرْوَاحُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ تَتَأَذَّى بِهِ، وَتَنْقَبِضُ كَذَلِكَ تَتَأَذَّى بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى غَيْرِهَا إلَّا أَنَّهُ عَلَيْهَا أَشَدُّ نِكَايَةً؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُصَابَةُ حِينَئِذٍ.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَوْتَى يَعْلَمُونَ أَحْوَالَ الْأَحْيَاءِ وَمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ وَفَقْرٍ وَاسْتِغْنَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَجَدَّدُ لِأَهْلَيْهِمْ وَيَتَأَلَّمُونَ لِلْمُؤْلِمَاتِ وَيُسَرُّونَ بِاللَّذَّاتِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِالزِّيَارَاتِ وَيَتَأَلَّمُونَ بِانْقِطَاعِهَا فَالْأَوْضَاعُ الْبَشَرِيَّةُ لِلْأَرْوَاحِ فِي الْبَرْزَخِ كَمَا كَانَتْ لَهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي مَسْكَنٍ فَارَقَتْهُ فَقَطْ، وَبَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا فِي أَوْضَاعِهَا فَالْعَذَابُ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا حَدِيثُ إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ بِمَعْنَى الْأَلَمِ الْجِبِلِّيِّ الَّذِي إذَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَنْ يَبْتَلِيهِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَلَمِ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَحْنُ الْأَنْبِيَاءَ أَشَدُّهُمْ بَلَاءً ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَذَابًا بِمَعْنَى عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ الذُّنُوبِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ كَمَا هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَاعِدَةِ إنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَذَّبُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا تَأَلُّمُهُمْ بِالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ عَلَى الْقَرْنِ الْمَاضِي أَنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَايَا كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ، وَالْعَذَابُ يُسْتَعَاذُ مِنْهُ وَلَا يُفْرَحُ بِهِ قَالَ الْأَصْلُ فَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي هُوَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ، وَيَبْقَى لَفْظُ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيُسْتَغْنَى عَنْ التَّأْوِيلِ وَتَخْطِئَةِ الرَّاوِي، وَمَا سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ مِنْ الْأَجْوِبَةِ كَانَ أَسْعَدَهَا وَأَوْلَاهَا، وَهَذَا كَذَلِكَ فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ وَالْآلَاتِ وَكُلِّ مَا دَلَّ عَلَيْهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَهِلَّةِ فِي الرَّمَضَانَاتِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ) ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ زَوَالَ الشَّمْسِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الظُّهْرِ وَبَقِيَّةَ الْأَوْقَاتِ سَبَبًا لِوُجُوبِ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أَيْ لِأَجْلِهِ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ حِينَ تُمْسُونَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الصُّبْحُ وَعَشِيًّا الْعَصْرُ وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظُّهْرُ، وَالصَّلَاةُ تُسَمَّى سُبْحَةً وَمِنْهُ سُبْحَةُ الضُّحَى أَيْ صَلَاتُهَا فَالْآيَةُ أَمْرٌ بِإِيقَاعِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَمَنْ عَلِمَ السَّبَبَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ لَزِمَهُ حُكْمُهُ فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ الْحِسَابُ الْمُفِيدُ لِلْقَطْعِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ.
وَأَمَّا الْأَهِلَّةُ فَقَالَ الْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى حِسَابُ تَسْيِيرِ الْكَوَاكِبِ عَلَى خُرُوجِ الْهِلَالِ مِنْ الشُّعَاعِ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا مُنْضَبِطًا بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنَّ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَانْتِقَالَاتِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ:
زُحَلٌ شَرَى مِرِّيخَهُ مِنْ شَمْسِهِ ... فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدِ الْأَقْمَارُ