مَعْنَى قَوْلِهِ «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ» أَيْ هُوَ أَشَدُّ تَفَطُّنًا لِحِجَاجِ الْخُصُومِ وَخُدَعِ الْمُتَحَاكِمِينَ.
وَبِهِ يَظْهَرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» وَإِذَا كَانَ مُعَاذٌ عُرِفَ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَانَ أَقْضَى النَّاسِ غَيْرَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا كَانَ يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحِجَاجِ وَالتَّفَطُّنِ لَهَا كَانَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ شَدِيدَ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
وَهُوَ يُخْدَعُ بِأَيْسَرِ الشُّبُهَاتِ فَالْقَضَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا التَّفَطُّنِ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ» الْحَدِيثَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ تَبَعُ الْحِجَاجِ وَأَحْوَالِهَا فَمَنْ كَانَ لَهَا أَشَدَّ تَفَطُّنًا كَانَ أَقَضَى مِنْ غَيْرِهِ، وَيُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ وَيُقَدَّمُ فِي أَمَانَةِ الْيَتِيمِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِتَنْمِيَةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَتَقْدِيرِ أَمْوَالِ النَّفَقَاتِ وَأَحْوَالِ الْكَوَافِلِ وَالْمُنَاظَرَاتِ عِنْدَ الْحُكَّامِ عَنْ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ، وَيُقَدَّمُ فِي جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِمَقَادِيرِ النُّصُبِ وَأَحْكَامِ الزَّكَاةِ مِنْ الْخُلْطَةِ وَغَيْرِهَا.
وَيُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِأَحْكَامِهَا وَعَوَارِضِ سَهْوِهَا وَاسْتِخْلَافِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَارِضِهَا وَمَصَالِحِهَا حَتَّى يَكُونُ الْمُقَدَّمُ فِي بَابٍ رُبَّمَا أُخِّرَ فِي بَابٍ آخَرَ كَالنِّسَاءِ مُقَدَّمَاتٍ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ عَلَى الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُنَّ أَصْبَرُ عَلَى أَخْلَاقِ الصِّبْيَانِ وَأَشَدُّ شَفَقَةً وَرَأْفَةً وَأَقَلُّ أَنَفَةً عَنْ قَاذُورَاتِ الْأَطْفَالِ، وَالرِّجَالُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَقُدِّمْنَ لِذَلِكَ وَأُخِّرَ الرِّجَالُ عَنْهُنَّ وَأَخِّرْنَ فِي الْإِمَامَةِ وَالْحُرُوبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَنَاصِبِ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِ تِلْكَ الْوِلَايَاتِ مِنْهُنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــSلِأَنَّ الرِّجَالَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِ تِلْكَ الْوِلَايَاتِ مِنْهُنَّ) قُلْت: إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْأَهْلِيَّةِ لِذَلِكَ وَبِمَنْ هُوَ دُونَهُ مَنْ لَيْسَ مُتَّصِفًا بِالْأَهْلِيَّةِ لِذَلِكَ فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْمُتَّصِفِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِمَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا مَنْ هُوَ أَتَمُّ قِيَامًا مَعَ أَنَّ مَنْ هُوَ دُونَهُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالضَّرْبِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ إذْ لَا يَتَوَجَّهَانِ إلَّا إذَا أُرِيدَ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ غَيْرُ الْكَوْنِ فِي الْوَقْتِ أَمَّا إذَا أُرِيدَ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ هِيَ الْكَوْنُ فِي الْوَقْتِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلْكَوْنِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمْ لَا فَلَا يَتَوَجَّهَانِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى اطِّرَادِ قَاعِدَةِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ بِمَعْنَى الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ خَاصَّةً حِينَئِذٍ هُوَ أَنَّا نَعْتَبِرُ أَنَّ تَخْصِيصَ جَمِيعِ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ بِوَقْتٍ وَنَحْوِهِ هُوَ مَصْلَحَتُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ لَا أَنَّ لِهَذَا التَّخْصِيصِ مَصْلَحَةً لَمْ نَعْلَمْهَا حَتَّى يُقَالَ لَمْ يَرِدْ بِعُمُومِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ قَاطِعٌ نَعَمْ لَا يُسَاعِدُ هَذَا الدَّفْعَ كَلَامُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ مَصْلَحَةٌ لَمْ نَعْلَمْهَا فَافْهَمْ.
الْأَمْرُ الْخَامِسُ انْدِفَاعُ الضَّرْبِ الْخَامِسِ بِمَنْعِ كَوْنِ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ أَوْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ فَتَأَمَّلْ بِأَنْصَافٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
. الْفَرْقُ التِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَسْبَابِ الصَّلَوَاتِ وَشُرُوطِهَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهَا وَتَفَقُّدُهَا وَقَاعِدَةِ أَسْبَابِ الزَّكَاةِ لَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهَا)
فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُوبُ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ أَسْبَابِ التَّكْلِيفِ بِهَا وَشُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُحَصِّلَ نِصَابًا حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِهَا، وَلَا أَنْ يُوفِيَ الدَّيْنَ لِغَرَضِ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنْهَا، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقَامَةُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهَا شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ تَحْصِيلِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إيقَاعُ الْوَاجِبِ بَعْدَ وُجُوبِهِ وَعَدَمِ وُجُوبِهِ.
ثَالِثُهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَسْبَابِ فَتَجِبُ دُونَ غَيْرِهَا فَلَا تَجِبُ إلَّا أَنَّ الْوَاجِبَاتِ بِاعْتِبَارِ تَعْيِينِ وُقُوعِ أَسْبَابِهَا أَوْ شُرُوطِهَا وَعَدَمِ تَعْيِينِ وُقُوعِهَا عَلَى قِسْمَيْنِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُودِ طَرَيَان مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِهَا جَزْمًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ كَالزَّوَالِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِرَمَضَانَ لِوُجُوبِ صَوْمِهِ وَلِشَوَّالٍ لِوُجُوبِ فِطْرِهِ وَإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ وَلِذِي الْحِجَّةِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَكَأَيَّامِ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ لِوُجُوبِ أَدَائِهِمَا فَهَذَا الْقِسْمُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ تَحْصِيلُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِهِ لَكِنَّهُ يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهُ كَانَ شَرْطًا أَوْ سَبَبًا بِسَبَبِ أَنَّهُ لَوْ أُهْمِلَ لَوَقَعَ التَّكْلِيفُ، وَالْمُكَلَّفُ غَافِلٌ عَنْهُ فَيَعْصِي بِتَرْكِ الْوَاجِبِ بِسَبَبِ إهْمَالِهِ، وَهُوَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَلَا عُذْرَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ ذَلِكَ قَضَاءُ رَمَضَانَ يَسُدُّ فِي بَقِيَّةِ الْعَامِ إلَى شَعْبَانَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أَخَّرَ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْأَهِلَّةَ لِئَلَّا يَدْخُلَ شَعْبَانُ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى ضَيَاعِ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ نَذَرَ يَوْمًا مُعَيَّنًا أَوْ شَهْرًا مُعَيَّنًا أَنْ يَفْحَصَ عَنْ هِلَالِ ذَلِكَ الشَّهْرِ وَيَتَحَرَّى ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يُوقِعَ ذَلِكَ الْوَاجِبَ وَلَا يَتَعَدَّاهُ فَيَعْصِي بِالْإِهْمَالِ مَعَ إمْكَانِ الضَّبْطِ لَهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي مَا لَا يَتَعَيَّنُ وُقُوعُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِهَا مِنْ أَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا فَقَدْ يَقَعُ وَقَدْ لَا يَقَعُ بَلْ الْأَصْلُ عَدَمُ وُقُوعِهِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا إذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ فَقِيرًا، وَلَهُ أَقَارِبُ أَغْنِيَاءُ فِي بِلَادٍ بَعِيدَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمْ فَيَرِثَهُ فَيَنْتَقِلَ الْمَالُ إلَيْهِ فَيَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَهَذَا الْقِسْمُ كَمَا لَا يَجِبُ تَحْصِيلُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِهِ كَذَلِكَ لَا يَجِبُ الْفَحْصُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ إغْفَالُ ذَلِكَ وَتَرْكُ السُّؤَالِ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَوْ فَحَصَ لَحَازَ الْمَالَ وَوَجَبَتْ