الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» أَيْ هَذَا شَأْنُكَ وَسَجِيَّتُكَ فِي جَمِيعِ عُمُرِكَ، وَعَلَى هَذَا تَنْتَظِمُ الْآيَةُ عَلَى الْجَمِيعِ.
(وَعَنْ الثَّانِي) أَنَّ تَرَتُّبَ التَّحْرِيمِ عَلَى الظِّهَارِ مَمْنُوعٌ بَلْ الَّذِي فِي الْآيَةِ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَطْءِ كَتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ تَطَهَّرْ قَبْلَ أَنْ تُصَلِّيَ لَا يُقَالُ الصَّلَاةُ مُحَرَّمَةٌ بَلْ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ التَّرْتِيبِ كَتَقْدِيمِ الْإِيمَانِ عَلَى الْفُرُوعِ وَتَقْدِيمِ الْإِيمَانِ بِالصَّانِعِ عَلَى تَصْدِيقِ الرُّسُلِ سَلَّمْنَا أَنَّ الظِّهَارَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَحْرِيمٌ لَكِنْ التَّحْرِيمُ عَقِيبَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ اقْتَضَاهُ بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ كَالطَّلَاقِ مَعَ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ، وَهَذَا هُوَ الْإِنْشَاءُ وَقَدْ يَكُونُ تَرَتُّبُ التَّحْرِيمِ عَقِبَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ لَا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ بَلْ عُقُوبَةً كَمَا تَرَتَّبَ تَحْرِيمُ الْإِرْثِ عَلَى الْقَاتِلِ عَمْدًا أَوْ لَيْسَ الْقَتْلُ إنْشَاءً لِتَحْرِيمِ الْإِرْثِ وَتَرَتُّبِ التَّعْزِيرِ عَلَى الْخَبَرِ الْكَذِبِ وَإِسْقَاطِ الْعَدَالَةِ وَالْعَزْلِ مِنْ الْوِلَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَهَذَا التَّرْتِيبُ كُلُّهُ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ لَا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَالْإِنْشَاءُ إنَّمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللَّفْظُ وُضِعَ لِذَلِكَ التَّحْرِيمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَصِيَغِ الْعُقُودِ فَسَبَبِيَّةُ الْقَوْلِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا بِالْإِنْشَاءِ فَكُلُّ إنْشَاءٍ سَبَبٌ وَلَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ مِنْ الْقَوْلِ إنْشَاءً بِدَلِيلِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِخْبَارَاتِ الْكَاذِبَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ نَصَبَ الشَّارِعُ تِلْكَ الْإِخْبَارَاتِ أَسْبَابًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ وَإِذَا كَانَتْ السَّبَبِيَّةُ أَعَمَّ لَا يُسْتَدَلُّ بِمُطْلَقِ السَّبَبِيَّةِ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَإِنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ تَرَتُّبِ التَّحْرِيمِ عَلَى الطَّلَاقِ وَبَيْنَ تَرَتُّبِهِ عَلَى الظِّهَارِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ.
فَإِنَّ الْجِهَاتِ مُخْتَلِفَةٌ جِدًّا وَنَحْنُ نَقُولُ التَّحْرِيمُ وَالْكَفَّارَةُ الْكُلُّ عُقُوبَةٌ عَلَى الْكَذِبِ فِي الظِّهَارِ (وَعَنْ الثَّالِثِ) أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْأَسْبَابِ فَلَا يَصِحُّ سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ لَكِنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ الصَّرِيحِ مِنْ الْقُرْآنِ الْمُخْبِرِ عَنْ كَوْنِهِ كَذِبًا، وَالْكَذِبُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَكُونُ فِي الْإِنْشَاءِ وَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ لَا يُسْمَعُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ لَهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ كَمَا قَالُوهُ فِي الطَّلَاقِ فَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْكَذِبِ فَالصَّرِيحُ مِنْهُ أَقْبَحُ وَأَشْنَعُ فَيَكُونُ أَوْلَى بِتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَفْرِقَتِهِمْ بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ فِي الطَّلَاقِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى تَفَاوُتِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ فَالْبَابَانِ مُخْتَلِفَانِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ.
(فَإِنْ قُلْت) فَقَدْ قَالُوا إنَّ صَرِيحَ الظِّهَارِ وَكِنَايَتَهُ يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ بِخِلَافِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــSمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ مُتَّجَهٌ وَجَوَابُهُ عَنْ الْوَارِدِ حَسَنٌ، قَالَ وَعَنْ الثَّانِي إنَّ تَرَتُّبَ التَّحْرِيمِ عَلَى الظِّهَارِ مَمْنُوعٌ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِيهِ قُلْتُ جَمِيعُ مَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ ظَاهِرٌ. قَالَ وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّهُ قَالَ إنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْأَسْبَابِ إلَى قَوْلِهِ تَأَمَّلْ ذَلِكَ قُلْتُ مَا قَالَهُ أَيْضًا ظَاهِرٌ مُتَّجَهٌ وَمَآلُ الْأَمْرِ فِيهِ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ سِوَاهُ.
قَالَ (فَإِنْ قُلْت فَقَدْ قَالُوا إنَّ صَرِيحَ الظِّهَارِ وَكِنَايَتَهُ يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ بِخِلَافِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ) إلَى آخِرِ كَلَامِهِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ قُلْت جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ مُسْتَقِيمٌ غَيْرَ أَنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْمُتَبَادِرَ إلَى الْفَهْمِ عُرْفًا أَنَّهُ إنْشَاءٌ فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْعُرْفُ عَنْ السَّلَفِ أَعْنِي الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَانْتَهَى الْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْقَطْعِ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ وَإِلَّا بَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQكَوْنِهِ كَذِبًا، وَالْكَذِبُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَكُونُ فِي الْإِنْشَاءِ وَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ لَا يُسْمَعُ نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْمُتَبَادِرَ إلَى الْفَهْمِ عُرْفًا أَنَّهُ إنْشَاءٌ فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْفَرْقُ عَلَى السَّلَفِ أَعْنِي الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَانْتَهَى الْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْقَطْعِ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ وَإِلَّا بَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةً.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ لِلظَّاهِرِ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ لَيْسَ بِمُسَاوٍ لِقَوْلِهِمْ إنَّ لِلطَّلَاقِ صَرِيحًا وَكِنَايَةً فِي الرُّجُوعِ إلَى تَفَاوُتِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي الْبَابَيْنِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ إنْشَاءٌ بَلْ الْأَوَّلُ إشَارَةٌ إلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْكَذِبِ فَالصَّرِيحُ مِنْهُ أَقْبَحُ وَأَشْنَعُ فَيَكُونُ أَوْلَى بِتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى تَفَاوُتِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ فَالْبَابَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ إنْشَاءً أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَذْفَ فِيهِ الصَّرِيحُ كَقَوْلِهِ أَنْتَ زَنَيْتَ بِفُلَانَةَ وَهُوَ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ خَبَرٌ صِرْفٌ إجْمَاعًا إمَّا كَاذِبٌ أَوْ صَادِقٌ، وَفِيهِ الْكِنَايَةُ كَالتَّعْرِيضِ مِثْلَ قَوْلِهِ مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَفْظُ الظِّهَارِ مِنْهُ مَا هُوَ صَرِيحٌ وَهُوَ مَا جَمَعَ بَيْنَ ظَهْرٍ وَمُؤَبَّدٍ تَحْرِيمُهَا كَقَوْلِهِ أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي مِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ التَّشْبِيهِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَهُ كَذِبًا وَزُورًا وَمِنْهُ مَا هُوَ كِنَايَةٌ يُشِيرُ إلَى هَذَا التَّشْبِيهِ وَهُوَ مَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الظَّهْرِ وَمُؤَبَّدَةِ التَّحْرِيمِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ كَأُمِّي أَوْ كَظَهْرِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَدَعْوَى أَنَّ قَوْلَهُمْ يَنْصَرِفُ صَرِيحُ الظِّهَارِ وَكِنَايَتُهُ لِلطَّلَاقِ، وَلَا يَنْصَرِفُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتُهُ لِلظِّهَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلظِّهَارِ أَصْلًا يَنْصَرِفُ عَنْهُ لِلطَّلَاقِ، وَمَا ذَلِكَ الْأَصْلُ إلَّا نَقْلُ الْعُرْفِ الظِّهَارَ مِنْ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ عَلَى أَنَّ انْصِرَافَ صَرِيحِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ وَكِنَايَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ وَعَدَمَ انْصِرَافِهِمَا لَيْسَ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِمَا فَقَدْ قَالَ خَلِيلٌ فِي صَرِيحِ الظِّهَارِ وَلَا يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ وَهَلْ يُؤْخَذُ بِالطَّلَاقِ إنْ نَوَاهُ مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ كَأَنْتِ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي تَأْوِيلَانِ.
اهـ الْبُنَانِيُّ وَالْأَحْسَنُ مَا أَصْلَحَ بِهِ ابْنُ عَاشِرٍ عِبَارَتَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ وَتُؤُوِّلَتْ بِالِانْصِرَافِ لَكِنْ يُؤْخَذُ بِهِمَا فِي الْقَضَاءِ.
اهـ لِإِفَادَتِهِ أَنَّ عَدَمَ الِانْصِرَافِ مُطْلَقًا أَرْجَحُ