فِي الْفِقْهِ فَإِنَّ الْقَوَاعِدَ لَيْسَتْ مُسْتَوْعَبَةً فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ لِلشَّرِيعَةِ قَوَاعِدُ كَثِيرَةٌ جِدًّا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَالْفُقَهَاءِ لَا تُوجَدُ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَصْلًا وَذَلِكَ هُوَ الْبَاعِثُ لِي عَلَى وَضْعِ هَذَا الْكِتَابِ لِأَضْبِطَ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ بِحَسَبِ طَاقَتِي وَلِاعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ يَحْرُمُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الْفَتْوَى فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ وَكَذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مُتَوَقِّفِينَ فِي الْفُتْيَا تَوَقُّفًا شَدِيدًا وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُفْتِيَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِذَلِكَ وَيَرَى هُوَ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ يُرِيدُ تَثْبُتُ أَهْلِيَّتُهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
وَيَكُونُ هُوَ بِيَقِينٍ مُطَّلِعًا عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ مِنْ الْإِنْسَانِ أَمْرٌ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ النَّاسُ حَصَلَ الْيَقِينُ فِي ذَلِكَ وَمَا أَفْتَى مَالِكٌ حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا لِأَنَّ التَّحَنُّكَ وَهُوَ اللِّثَامُ بِالْعَمَائِمِ تَحْتَ الْحَنَكِ شِعَارُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ تَحَنُّكٍ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى تَأَكُّدِ التَّحْنِيكِ وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الْفُتْيَا فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ انْخَرَقَ هَذَا السِّيَاجُ وَسَهُلَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ دِينِهِمْ فَتَحَدَّثُوا فِيهِ بِمَا يَصْلُحُ وَبِمَا لَا يَصْلُحُ وَعَسُرَ عَلَيْهِمْ اعْتِرَافُهُمْ بِجَهْلِهِمْ وَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ لَا يَدْرِي فَلَا جَرَمَ آلَ الْحَالُ لِلنَّاسِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْجُهَّالِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَصِيرَ طَالِبُ الْعِلْمِ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الشُّرُوطِ مَعَ الدِّيَانَةِ الْوَازِعَةِ وَالْعَدَالَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَذْهَبِهِ نَقْلًا وَتَخْرِيجًا وَيَعْتَمِدُ عَلَى مَا يَقُولُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّقْلِ وَقَاعِدَةِ الْإِسْقَاطِ) اعْلَمْ أَنَّ الْحُقُوقَ وَالْأَمْلَاكَ يَنْقَسِمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا إلَى نَقْلٍ وَإِسْقَاطٍ فَالنَّقْلُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ بِعِوَضٍ فِي الْأَعْيَانِ كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَإِلَى مَا هُوَ فِي الْمَنَافِعِ كَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْجَعَالَةِ وَإِلَى مَا هُوَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَالْعُمْرَى وَالْوَقْفِ وَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَاةِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَالْغَنِيمَةِ فِي الْجِهَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ نَقْلُ مِلْكٍ فِي أَعْيَانٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَأَمَّا الْإِسْقَاطُ فَهُوَ إمَّا بِعِوَضٍ كَالْخُلْعِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةِ وَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ وَالصُّلْحِ عَلَى الدَّيْنِ وَالتَّعْزِيرِ فَجَمِيعُ هَذِهِ الصُّوَرِ يَسْقُطُ فِيهَا الثَّابِتُ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْبَاذِلِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ الْمَبْذُولُ لَهُ مِنْ الْعِصْمَةِ وَبَيْعِ الْعَبْدِ وَنَحْوِهِمَا وَإِمَّا بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْإِبْرَاءِ مِنْ الدُّيُونِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِيقَافِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا فَجَمِيعُ هَذِهِ الصُّوَرِ يَسْقُطُ فِيهَا الثَّابِتُ وَلَا يَنْتَقِلُ لِغَيْرِ الْأَوَّلِ وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) الْإِبْرَاءُ مِنْ الدَّيْنِ هَلْ يَفْتَقِرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْعَذَابِ بِسَبَبِ ظُلْمِكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ يَعْنِي أَنَّ إذْ ظَلَمْتُمْ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ النَّفْعِ الْمَأْخُوذِ مِنْ لَنْ أَيْ أَنَّهُمْ لِعِظَمِ مَا هُمْ فِيهِ لَا يُهَوِّنُ عَلَيْهِمْ اشْتِرَاكُهُمْ فِي الْعَذَابِ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي الْمُغْنِي وَحَوَاشِيهِ نَعَمْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ بِسَبَبِ ظُلْمِكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ الْجَرْيُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إذَا التَّعْلِيلِيَّةَ ظَرْفٌ وَالتَّعْلِيلُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قُوَّةِ الْكَلَامِ لَا مِنْ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ ضَرَبْته إذْ أَسَاءَ وَأُرِيدَ بِإِذْ الْوَقْتُ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْحَالِ أَنَّ الْإِسَاءَةَ سَبَبُ الضَّرْبِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِوَصْفٍ يُشْعِرُ بِعَلِيَّتِهِ لَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَرْفٌ بِمَنْزِلَةِ لَامِ الْعِلَّةِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ فِي الْمُغْنِي وَالْجُمْهُورُ لَا يُثْبِتُونَ هَذَا الْقِسْمَ أَيْ كَوْنَ إذْ حَرْفًا بِمَنْزِلَةِ لَامِ الْعِلَّةِ وَلِذَا قَالَ الرَّضِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} [الأحقاف: 11] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] الْآيَةَ أَنَّ الْفَاءَ لِإِجْرَاءِ الظَّرْفِ مَجْرَى كَلِمَةِ الشَّرْطِ كَمَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي نَحْوِ زَيْدٌ حِينَ لَقِيته فَأَنَا أُكْرِمُهُ وَهُوَ فِي إذْ مُطَّرِدٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] أَيْ مِمَّا أُضْمِرَ فِيهِ وَإِنَّمَا جَازَ إعْمَالُ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ سَيَقُولُونَ وَآوَوْا وَأَقِيمُوا فِي الظُّرُوفِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي هِيَ إذْ لَمْ يَهْتَدُوا وَمَا مَعَهُ وَإِنْ كَانَ وُقُوعُ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي مُحَالًا لِمَا ذُكِرَ فِي نَحْوِ أَمَّا زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ مِنْ أَنَّ الْغَرَضَ الْمَعْنَوِيَّ هُوَ قَصْدُ الْمُلَازَمَةِ حَتَّى كَانَ هَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمُسْتَقْبَلَةُ وَقَعَتْ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ وَصَارَتْ لَازِمَةً لَهَا كُلُّ ذَلِكَ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ اهـ نَقَلَهُ الْأَبْيَارِيُّ فِي الْقَصْرِ لَكِنْ أَوْرَدَ فِي الْمُغْنِي عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إذْ التَّعْلِيلِيَّةَ ظَرْفٌ إشْكَالَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ اُسْتُفِيدَ التَّعْلِيلُ مِنْ قُوَّةِ الْكَلَامِ لَكَانَ إذَا حُذِفَتْ إذْ وَحَلَّ مَحَلُّهَا وَقْتٌ اُسْتُفِيدَ التَّعْلِيلُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ زَمَنِ الْفِعْلَيْنِ فَإِنَّ يَنْفَعُ مُسْتَقْبَلٌ لِاقْتِرَانِهِ بِلَنْ وَظَلَمَ مَاضٍ وَكَذَا إذْ وَلَا بُدَّ فِي التَّعْلِيلِ مِنْ اتِّحَادِ الزَّمَانَيْنِ فِي الْمِثَالِ.
وَثَانِيهِمَا أَنَّ إذْ لَا تُبْدَلُ مِنْ الْيَوْمِ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ أَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ وَلَا يَصِحُّ إبْدَالُ أَحَدِ الْمُتَبَايِنَيْنِ مِنْ الْآخَرِ وَلَا تَكُونُ ظَرْفًا لِيَنْفَعَ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِي ظَرْفَيْنِ زَمَانِيَّيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ وَلَا مُنْدَرِجًا فِيهِ مَعَ أَنَّ النَّفْعَ لَيْسَ وَاقِعًا فِي وَقْتِ الظُّلْمِ وَلَا تَكُونُ ظَرْفًا لَمُشْتَرِكُونَ لِأَنَّ مَعْمُولَ خَبَرِ الْأَحْرُفِ السِّتَّةِ يَعْنِي إنَّ وَأَخَوَاتِهَا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا.
وَلِأَنَّ مَعْمُولَ الصِّلَةِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْصُولِ وَلِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي زَمَنِ ظُلْمِهِمْ وَأَجَابَ عَنْ هَذَا الثَّانِي بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ أَشَارَ لِأَوَّلِهَا وَثَانِيهَا بِقَوْلِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ رَاجَعْت أَبَا عَلِيٍّ مِرَارًا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} [الزخرف: 39] الْآيَةَ مُسْتَشْكِلًا إبْدَالَ إذْ مِنْ الْيَوْمِ فَآخِرُ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُ أَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ مُتَّصِلَتَانِ وَأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ فَكَانَ الْيَوْمُ مَاضٍ أَوْ