فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نُلَابِسُهَا وَيَجْعَلُ عَاقِبَتَهَا رَدِيئَةً وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُنَافِي ذَلِكَ التَّخْيِيرَ الثَّابِتَ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ الْكَائِنِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَكَذَلِكَ التَّخْيِيرُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْقَدَحَيْنِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَهُوَ مُحَقَّقٌ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ مَأْذُونٌ بِإِقْدَامِهِ عَلَيْهِمَا وَلَوْ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْقَدَحِ مِنْ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ إثْمًا وَلَا عِقَابَ فِيهِ نَعَمْ فِيهِ سُوءُ الْعَاقِبَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى أَثَرِ الْقُدْرَةِ وَالْقَدَرِ وَمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَوَادِثِ مِنْ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ لَا لِلْمَنْعِ النَّفْسِيِّ الْمُنَاقِضِ لِلتَّخْيِيرِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْيِيرِ مَعَ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَاتَّضَحَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي اسْتَشْكَلَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَأَنَّهُ لِمَوْضِعِ إشْكَالٍ لَوْلَا هَذَا الْفَرْقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا)
اُشْتُهِرَ بَيْنَ النُّظَّارِ وَالْفُضَلَاءِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْفِقْهِيَّاتِ أَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ أَحَدَ أَنْوَاعِهِ عَيْنًا وَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ الْأَعَمُّ مُطْلَقَ الْأَخَصِّ لَا أَخَصَّ مُعَيَّنًا وَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ مُطْلَقَ الْأَخَصِّ لِضَرُورَةِ وُقُوعِهِ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّ دُخُولَ الْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ فِي الْوُجُودِ مُجَرَّدَةً مُحَالٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَخْصٍ تَدْخُلُ فِيهِ وَمَعَهُ فَلِذَلِكَ صَارَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْوُجُودِ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ عَلَى مُطْلَقِ الْأَخَصِّ وَهُوَ أَخَصُّ مَا لَا أَخَصَّ مُعَيَّنًا وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُطَّرِدُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالنُّظَّارِ لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ وَهُمَا قَاعِدَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ وَتَحْرِيرُ ضَبْطِهِمَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْعَامَّةَ تَارَةً فِي رُتَبٍ مُتَرَتِّبَةٍ بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَالْجُزْءِ وَالْكُلِّ وَتَارَةً تَقَعُ فِي رُتَبٍ مُتَبَايِنَةٍ فَمِثَالُ الْأَوَّلِ مُطَلَّقُ الْفِعْلِ الْأَعَمِّ مِنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَرَّاتِ فَالْمَرَّةُ رُتْبَةٌ دُنْيَا وَالْمَرَّاتُ رُتْبَةٌ عُلْيَا
ـــــــــــــــــــــــــــــSقَالَ (الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَعَمِّ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ عَيْنًا) اُشْتُهِرَ بَيْنَ النُّظَّارِ وَالْفُضَلَاءِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْفِقْهِيَّاتِ أَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ أَحَدَ أَنْوَاعِهِ عَيْنًا وَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ الْأَعَمُّ مُطْلَقَ الْأَخَصِّ لَا أَخَصَّ مُعَيَّنًا إلَى قَوْلِهِ: (لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ) قُلْت: مَا اُشْتُهِرَ بَيْنَ النُّظَّارِ هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ فِيهِ مِنْهُمْ اثْنَانِ وَلَا وَجْهَ هُنَا لِيَكَادُ.
قَالَ (وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ وَهُمَا قَاعِدَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ) قُلْت: بَلْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِمُخْتَلِفٍ وَلَيْسَ هَا هُنَا قَاعِدَتَانِ بِوَجْهٍ بَلْ هِيَ قَاعِدَةٌ وَاحِدَةٌ فَهَذَا الْفَرْقُ بَاطِلٌ.
قَالَ (وَتَحْرِيرُ ضَبْطِهِمَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْعَامَّةَ تَارَةً تَقَعُ فِي رُتَبٍ مُتَرَتِّبَةٍ بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَالْجُزْءِ وَالْكُلِّ وَتَارَةً تَقَعُ فِي رُتَبٍ مُتَبَايِنَةٍ) قُلْت: ذَلِكَ مُسَلَّمٌ.
قَالَ (فَمِثَالُ الْأَوَّلِ مُطْلَقُ الْفِعْلِ الْأَعَمِّ مِنْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَرَّاتِ فَالْمَرَّةُ رُتْبَةٌ دُنْيَا وَالْمَرَّاتُ رُتْبَةٌ عُلْيَا
ـــــــــــــــــــــــــــــQلَيْسَ بِمُبَاحٍ بِإِطْلَاقٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُبَاحٌ بِالْجُزْءِ خَاصَّةً وَأَمَّا بِالْكُلِّ فَهُوَ إمَّا مَطْلُوبُ الْفِعْلِ أَوْ مَطْلُوبُ التَّرْكِ مَثَلًا هَذَا الثَّوْبُ الْحَسَنُ مُبَاحُ اللُّبْسِ قَدْ اسْتَوَى فِي نَظَرِ الشَّرْعِ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فَلَا قَصْدَ لَهُ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا مَعْقُولٌ وَاقِعٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمُقْتَصَرِ بِهِ عَلَى ذَاتِ الْمُبَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ وَهُوَ مِنْ جِهَةٍ مَا هُوَ وِقَايَةٌ لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَمُوَارٍ لِلسَّوْأَةِ وَجَمَالٌ فِي النَّظَرِ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ، وَهَذَا النَّظَرُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَذَا الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ وَلَا بِهَذَا الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ نَظَرٌ بِالْكُلِّ لَا بِالْجُزْءِ اهـ بِتَغْيِيرٍ وَتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمُتَبَايِنَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ) وَضَابِطُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ مَتَى وَقَعَ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ مِنْ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَهُوَ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى وَاجِبًا مُخَيَّرًا، وَمَتَى وَقَعَ بَيْنَ أَفْرَادِ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَتَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ رِقَابِ الدُّنْيَا فِي إعْتَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَغَيْرِهَا وَبَيْنَ شِيَاهِ الدُّنْيَا فِي إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَبَيْنَ دَنَانِيرِ الدُّنْيَا فِي إخْرَاجِ دِينَارٍ مِنْ أَرْبَعِينَ دِينَارٍ أَوْ بَيْنَ مِيَاهِ الدُّنْيَا فِي الْوُضُوءِ بِمَاءٍ مِنْهَا وَبَيْنَ ثِيَابِ الدُّنْيَا فِي الِاسْتِتَارِ بِثَوْبٍ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النَّظَائِرِ فَهُوَ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى وَاجِبًا مُخَيَّرًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عِقَابِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عَاقِبَتِهِ لَا مِنْ عِقَابِهِ) حَيْثُ قَالُوا: يَتَعَذَّرُ وُقُوعُ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَيِّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُخْشَى مِنْ عِقَابِهِ إذْ لَا يَجْتَمِعُ الْعِقَابُ عَلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ أَحَدَ الْأُمُورِ بِعَيْنِهِ مَعَ تَخْيِيرِهِ فِي فِعْلِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْهَا أَبَدًا، وَقَالُوا: يُمْكِنُ وُقُوعُ الثَّانِي بَلْ قَدْ «وَقَعَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَدَحَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ خَمْرٌ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ شُرْبِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَاخْتَارَ اللَّبَنَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اخْتَرْت الْفِطْرَةَ وَلَوْ اخْتَرْت الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُك» وَقَدْ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّ شُرْبَ هَذَا الْقَدَحِ مِنْ الْخَمْرِ سَبَبُ ضَلَالِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالسَّبَبُ لِلضَّلَالِ حَرَامٌ فَيَكُونُ حَرَامًا فَكَيْفَ يَقَعُ التَّخْيِيرُ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْنَهُ وَهُوَ حَرَامٌ