تَنْقَضِيَ أَيَّامُ الرَّمْيِ وَأَمَّا الْمَوَاقِيتُ الْمَكَانِيَّةُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَهَا طُولُ الْحَجِّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى إفْسَادِهِ الْفَرْقُ الثَّالِثُ
أَنَّ الْمِيقَاتَ الْمَكَانِيَّ يَثْبُتُ الْإِحْرَامُ بَعْدَهُ فَيَثْبُتُ قَبْلَهُ تَسْوِيَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ لَا يَثْبُتُ الْإِحْرَامُ بَعْدَهُ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ بَلْ لِضَرُورَةٍ فَلَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ تَسْوِيَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَهُمَا بِأَنْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ مِنْ الْفُرُوقِ الْغَرِيبَةِ.
(الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُرْفِ الْقَوْلِيِّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَيُخَصِّصُهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَلَا يُخَصِّصُهَا)
وَذَلِكَ أَنَّ الْعُرْفَ الْقَوْلِيَّ أَنْ تَكُونَ عَادَةُ أَهْلِ الْعُرْفِ يَسْتَعْمِلُونَ اللَّفْظَ فِي مَعْنًى مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لُغَةً وَذَلِكَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا فِي الْمُفْرَدَاتِ نَحْوَ الدَّابَّةِ لِلْحِمَارِ وَالْغَائِطِ لِلنَّجْوِ وَالرِّوَايَةِ لِلْمَزَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَثَانِيهِمَا فِي الْمُرَكَّبَاتِ وَهُوَ أَدَقُّهَا عَلَى الْفَهْمِ وَأَبْعَدُهَا عَنْ التَّفَطُّنِ وَضَابِطُهَا أَنْ يَكُونَ شَأْنُ الْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ تَرْكِيبَ لَفْظٍ مَعَ لَفْظٍ يَشْتَهِرُ فِي الْعُرْفِ تَرْكِيبُهُ مَعَ غَيْرِهِ وَلَهُ مِثْلُ أَحَدِهِمَا نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] فَإِنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إنَّمَا تَحْسُنُ إضَافَتُهُمَا لُغَةً لِلْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ فَذَاتُ الْمَيْتَةِ لَا يُمْكِنُ الْعُرْفِيَّ أَنْ يَقُولَ هِيَ الْإِحْرَامُ بِمَا هِيَ ذَاتٌ بَلْ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لَهَا كَالْأَكْلِ لِلْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالشُّرْبِ لِلْخَمْرِ وَالِاسْتِمْتَاعِ لِلْأُمَّهَاتِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا وَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» وَالْأَعْرَاضُ وَالْأَمْوَالُ لَا تَحْرُمُ بَلْ أَفْعَالٌ تُضَافُ إلَيْهَا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ إلَّا وَإِنَّ سَفْكَ دِمَائِكُمْ وَأَكْلَ أَمْوَالِكُمْ وَثَلْبَ أَعْرَاضِكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ جَمِيعُ مَا يَرِدُ مِنْ الْأَحْكَامِ كَانَ أَصْلُهُ أَنْ يُضَافَ إلَى الْأَفْعَالِ وَيُرَكَّبَ مَعَهَا فَإِذَا رُكِّبَ مَعَ الذَّوَاتِ فِي الْعُرْفِ وَمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــSفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَوْلَا أَنَّهُ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ إنَّ إحْرَامَ الْمُحْرِمِ مِنْ بَلَدِهِ أَفْضَلُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك» وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ بِكَرَاهَةِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ وَتَأَوَّلَهُ أَهْلُ مَذْهَبِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَأْوِيلِهِ لَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ إلَّا فِيمَا بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْمَنْعِ إنْ لَمْ تُحْمَلْ الْكَرَاهَةُ عَلَيْهِ قَالَ (الْفَرْقُ الثَّالِثُ أَنَّ الْمِيقَاتَ الْمَكَانِيَّ يَثْبُتُ لِإِحْرَامٍ بَعْدَهُ فَيَثْبُتُ قَبْلَهُ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ إلَخْ)
قُلْت هَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ جِدًّا وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَالِكًا لَا يَحْتَاجُ إلَى فَرْقٍ وَالشَّافِعِيِّ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُرْفِ الْقَوْلِيِّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَيُخَصِّصُهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَلَا يُخَصِّصُهَا إلَى قَوْلِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى تَقْلِيلِهِ مَعَ أَنَّهُ إذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدَهُ الْآبِقَ وَلَمْ يَجِدْهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا وَأَلْحَقَ مَالِكٌ بِهَذَا الْقِسْمِ الْخُلْعَ نَظَرًا لِكَوْنِ الْعِصْمَةِ وَإِطْلَاقِهَا لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يُقْصَدُ بِالْمُعَاوَضَةِ بَلْ شَأْنُ الطَّلَاقِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَالْهِبَةِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا لَمْ يَكُنْ مُعَاوَضَةً صِرْفَةً وَلَا إحْسَانًا صِرْفًا كَالنِّكَاحِ فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَالَ فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَوَدَّةُ وَالْأُلْفَةُ وَالسُّكُونُ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِيهِ فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ فِيهِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيلَ نَحْوَ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَشُورَةِ بَيْتٍ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ لِلْوَسَطِ الْمُتَعَارَفِ وَلَمْ يَجُزْ فِيهِ الْغَرَرُ الْكَثِيرُ نَحْوُ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ لَهُ وَعَمَّمَ الشَّافِعِيُّ الْمَنْعَ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ.
وَلَوْ كَانَتْ إحْسَانًا صِرْفًا كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ إلَّا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُولِ لَمَّا لَمْ يَرِدْ فِيهَا مَا يَعُمُّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ حَتَّى نَقُولَ يَلْزَمُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَلْ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِقْهًا جَمِيلًا بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ قُلْت: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَرَرِ الْقَلِيلِ الْمُغْتَفَرِ فِي النِّكَاحِ هُوَ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي نَحْوِ الْبَيْعِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ دَيْنًا نُذِرَ إلَّا مَا يُغْتَفَرُ فِيهِ أَيْضًا وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ غَالِبُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ فِي النَّهْيِ نَظِيرُ الْمُشْتَرَكِ فِي النَّفْيِ فَكَمَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُشْتَرَكِ نَفْيُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ لِقَوْلِ أَرْبَابِ الْمَعْقُولِ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَعَمِّ نَفْيُ الْأَخَصِّ كَذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ الْوُجُودَ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فَرْدٌ لَدَخَلَ هُوَ فِي ضِمْنِهِ فَإِنَّ مَعْنَى النَّهْيِ الْأَمْرُ بِإِعْدَامِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَأَنْ لَا تَدْخُلَ فِي الْوُجُودِ أَلْبَتَّةَ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِإِجْرَاءِ حُكْمٍ فِي الْمُشْتَرَكِ نَظِيرُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِ فَكَمَا أَنَّ الْآمِرَ أَمَرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ يَقْتَضِي عِتْقَ شَخْصٍ مُبْهَمٍ وَإِخْرَاجَ شَاةٍ مُبْهَمَةٍ مِنْ الْأَرْبَعِينَ وَإِنْ كَانَتْ ضَرُورَةُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا أُمِرَ بِهِ تُعَيِّنُهُ إذْ لَا يُمْكِنُ الْأَمْرُ بِنَفْسِ الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَكَيْفَ يَسُوغُ ذَلِكَ.
وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحَقِيقَةِ