عَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَقَالَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مَنْ يَعْصِمُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ عِنْدَ أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ مَعَ رَبِّهِ يَدَّخِرُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَةٍ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ وَتَحْقِيقُ هَذَا الْبَابِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّوَكُّلَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ يَكْرَهُهُ مِنْ ضَيْرٍ لِأَجْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــSعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَقَالَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مَنْ يَعْصِمُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ عِنْدَ غَايَةِ كَمَالِهِ مَعَ رَبِّهِ مُدَّخِرًا لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَةٍ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ) قُلْت تَغْلِيطُ مَنْ غَلَّطَ مِنْ الْعُلَمَاءِ جَمَاعَةَ الْعُبَّادِ فِيمَا ذَكَرَهُ غَلَطٌ مِنْ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إسَاءَتِهِمْ الظَّنَّ بِأُولَئِكَ الْعُبَّادِ، وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا فَكَيْفَ بِالْعُبَّادِ مِنْهُمْ وَالْعُبَّادُ وَاَلَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَعَوَّدَ خَرْقَ الْعَادَةِ لَهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَعَوَّدْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا عَيْبَ عَلَيْهِمْ.
وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ أَحْوَالٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهَا أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِمْ أَحْوَالٌ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا عَيْبَ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِمْ دَفْعَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي يَكُونُونَ مُرْتَكِبِينَ لِمَمْنُوعٍ فَيَلْحَقُهُمْ الْعَيْبُ فَمَا بَالُ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ حَكَمُوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ هَذَا الْأَخِيرِ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي أَلَيْسَ ذَلِكَ إسَاءَةَ ظَنٍّ فِي مَوْطِنٍ يُمْكِنُ فِيهِ تَحْسِينُهُ وَلَمْ يُسَأْ بِهِمْ الظَّنُّ فَيُظَنُّ أَنَّهُمْ ظَانُّونَ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ بَلْ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ وَأَنَّهُ كَمَا لَا يُنَافِي التَّسَبُّبَ لَا يُنَافِي أَيْضًا عَدَمَ التَّسَبُّبِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ التَّسَبُّبِ إذْ مَسَاقُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّوَكُّلَ مَعَ التَّسَبُّبِ يَصِحُّ وَمَعَ عَدَمِ التَّسَبُّبِ يَصِحُّ، وَمَا عَدَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى التَّوَكُّلِ إلَّا لِأَنَّهُ الْمُعَلِّمُ الْمُقْتَدَى بِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْخَوَاصِّ وَالْجُمْهُورِ فَلَمَّا تَطْمَئِنُّ نُفُوسُهُمْ إلَّا مَعَ التَّسَبُّبِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ وَارِدَةٌ عَلَى الْغَالِبِ لَا عَلَى النَّادِرِ. مَعَ أَنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ التَّوَكُّلَ وَإِنْ صَحَّ مَعَ التَّسَبُّبِ وَعَدَمِهِ فَالتَّوَكُّلُ مَعَ التَّسَبُّبِ رَاجِحٌ فِي حَقِّهِ لِلْحَاجَةِ لِتَعْلِيمِ الْجُمْهُورِ كَمَا سَبَقَ، وَلِأَمْنِهِ مِنْ شَائِبَةِ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ لِعِصْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّوَكُّلُ مَعَ عَدَمِ التَّسَبُّبِ رَاجِحٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِعَدَمِ أَمْنِهِ مِنْ شَائِبَةِ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ لِعَدَمِ عِصْمَتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ (وَتَحْقِيقُ هَذَا الْبَابِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّوَكُّلَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ يَكْرَهُهُ مِنْ ضَيْرٍ لِأَجْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَنْ حَلَالٍ: إنَّهُ حَرَامٌ أَوْ عَنْ حَرَامٍ: إنَّهُ حَلَالٌ أَوْ عَنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَا رَأَى فِي النَّوْمِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ كَمَا لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ مِنْ أَخْبَارِ الْيَقَظَةِ صَحِيحَانِ فَإِنَّا نُقَدِّمُ الْأَرْجَحَ بِالسَّنَدِ أَوْ بِاللَّفْظِ أَوْ بِفَصَاحَتِهِ أَوْ قِلَّةِ الِاحْتِمَالِ فِي الْمَجَازِ أَوْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ خَبَرُ الْيَقَظَةِ، وَخَبَرُ النَّوْمِ يُخَرَّجَانِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ اهـ.
(الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ)
فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَمُحِلِّيهِ اُخْتُلِفَ هَلْ يَجُوزُ الرُّؤْيَةُ لَهُ - تَعَالَى - فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَا؛ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ فِيهِ خَيَالٌ وَمِثَالٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَدِيمِ مُحَالٌ وَقِيلَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ لِذَلِكَ فِي الْمَنَامِ اهـ قَالَ الْمَحَلِّيُّ وَالْعَطَّارُ عَلَيْهِ وَقَدْ ذُكِرَ وُقُوعُهَا فِي الْمَنَامِ لِكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت: يَا رَبِّ مَا أَفْضَلُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ قَالَ كَلَامِي يَا أَحْمَدُ فَقُلْت: بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ قَالَ بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ وَرَآهُ أَحْمَدُ بْنُ حَضْرَوَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا أَحْمَدُ كُلُّ الْخَلْقِ يَطْلُبُونَ مِنِّي إلَّا أَبَا يَزِيدَ فَإِنَّهُ يُطَالِبنِي، وَعَلَى ذَلِكَ الْمُعَبِّرُونَ لِلرُّؤْيَا فَإِنَّهُمْ يَعْقِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ بَابًا لِرُؤْيَةِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا وَبَالَغَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي إنْكَارِهِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنْعِ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَضْمُونِ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ: الْحَقُّ أَنَّا نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُرَى فِي الْمَنَامِ كَمَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَى نَعَمْ ذَاتُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَذَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُرَيَانِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُرَى مِثَالٌ يَعْتَقِدُهُ النَّائِمُ ذَاتَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَذَاتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَيْفَ يُنْكَرُ ذَاكَ مَعَ وُجُودِهِ فِي الْمَنَامَاتِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَرَهُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ تَوَاتَرَ إلَيْهِ مِنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ قَالَ، وَلَا يَرِدُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَا مِثْلَ لَهُ بِخِلَافِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ لَهُ مَثَلًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمِثْلِ وَالْمِثَالِ بِأَنَّ الْمِثْلَ الْمُسَاوِيَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَالْمِثَالُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْمُسَاوَاةِ إلَخْ اهـ فَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَصْلُ رُؤْيَةُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي النَّوْمِ تَصِحُّ وَلِذَلِكَ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ
(أَحَدُهَا) : أَنْ يَرَاهُ فِي النَّوْمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ لَهُ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحُدُوثِ مِنْ الْجِسْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ فَهَذَا كَمَا نُجَوِّزُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَنَجْزِمُ بِوُقُوعِهِ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِ كَذَلِكَ نُجَوِّزُهُ فِي الدُّنْيَا لَكِنْ مَنْ ادَّعَى هَذِهِ الْحَالَةَ إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا مِنْ الْعُصَاةِ، أَوْ مِنْ الْمُقَصِّرِينَ كَذَّبْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَّقِينَ لَا نُكَذِّبُهُ وَنُسَلِّمُ لَهُ حَالَةَ وقَوْله تَعَالَى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فِيهِ تَأْوِيلَاتٌ، وَهُوَ عُمُومٌ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَإِخْبَارُ الْوَلِيِّ الْمَوْثُوقِ بِدِينِهِ الْمُبَرَّزِ فِي عَدَالَتِهِ يَصْلُحُ لِتَقْوِيَةِ بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ وَلِتَخْصِيصِ هَذَا الْعَامِّ وَخَبَرُ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَنَحْنُ نَقْبَلُ خَبَرَ الْأَوْلِيَاءِ فِي وُقُوعِ الْكَرَامَاتِ الَّتِي هِيَ