وَيَقُولُ: إنَّمَا شُرِعَتْ الْمُصَافَحَةُ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَمَّا مَنْ هُوَ جَالِسٌ مَعَ الْإِنْسَانِ فَلَا يُصَافِحُهُ وَرَأَيْت بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: رُوِيَ فِي مُصَافَحَةِ مَنْ هُوَ جَالِسٌ مَعَك فِي حَدِيثٍ.
وَلَا أَعْلَمُ صِحَّةَ قَوْلِهِ، وَلَا صِحَّةَ الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْمُصَافَحَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَعَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتُهَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ حُجَّةُ الْكَرَاهَةِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْمَلَائِكَةِ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} [الذاريات: 25] قَالَ مَالِكٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَافَحَةَ وَلِأَنَّ السَّلَامَ يُنْتَهَى فِيهِ لِلْبَرَكَاتِ، وَلَا يُزَادُ فِيهِ قَوْلٌ، وَلَا فِعْلٌ حُجَّةُ الْمَشْهُورِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَصَافَحُوا يَذْهَبْ الْغِلُّ وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ»
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) : الْمُعَانَقَةُ كَرِهَهَا مَالِكٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُرْوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا مَعَ جَعْفَرٍ وَلَمْ يَصْحَبْهَا الْعَمَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِهِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ: وَلِأَنَّ النُّفُوسَ تَنْفِرُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِوَدَاعٍ مِنْ فَرْطِ أَلَمِ الشَّوْقِ أَوْ مَعَ الْأَهْلِ وَدَخَلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى مَالِكٍ فَصَافَحَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ لَهُ: لَوْلَا أَنَّ الْمُعَانَقَةَ بِدْعَةٌ لَعَانَقْتُك فَقَالَ سُفْيَانُ: عَانَقَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَمِنْك، النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَانَقَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ قَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ خَاصٌّ بِجَعْفَرٍ، قَالَ سُفْيَانُ: بَلْ عَامٌّ مَا يَخُصُّ جَعْفَرًا يَخُصُّنَا، وَمَا يَعُمُّ جَعْفَرًا يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُحَدِّثَ فِي مَجْلِسِك، قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ اعْتَنَقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَقَالَ جَعْفَرٌ أَشْبَهُ النَّاسِ بِنَا خَلْقًا وَخُلُقًا يَا جَعْفَرُ مَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْت بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْت، وَأَنَا أَمْشِي فِي بَعْضِ أَزِقَّتِهَا إذَا سَوْدَاءُ عَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ فِيهِ بُرٌّ فَصَدَمَهَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّتِهِ فَوَقَعَ مِكْتَلُهَا وَانْتَشَرَ بُرُّهَا فَأَقْبَلَتْ تَجْمَعُهُ مِنْ التُّرَابِ، وَهِيَ تَقُولُ: وَيْلٌ لِلظَّالِمِ مِنْ دَيَّانِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ لِلظَّالِمِ مِنْ الْمَظْلُومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ لِلظَّالِمِ إذَا وُضِعَ الْكُرْسِيُّ لِلْفَصْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا تَأْخُذُ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ» ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ قَدْ قَدِمْت لِأُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُبَشِّرَك بِرُؤْيَا رَأَيْتهَا فَقَالَ مَالِكٌ: رَأَتْ عَيْنَاك خَيْرًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فَقَالَ سُفْيَانُ: رَأَيْت كَأَنَّ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْشَقَّ فَأَقْبَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَرُدُّ بِأَحْسَنَ رَدٍّ قَالَ سُفْيَانُ فَإِنَّنِي بِك - وَاَللَّهِ أَعْرِفُك فِي مَنَامِي كَمَا أَعْرِفُك فِي يَقَظَتِي
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَخْ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْغُلَامَيْنِ الْيَتِيمَيْنِ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] فَانْتَفَعَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَيْسَ مِنْ سَعْيِهِمَا وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] وَقَالَ - تَعَالَى - {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح: 25] وَقَالَ - تَعَالَى - {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة: 251] فَقَدْ رَفَعَ - تَعَالَى - الْعَذَابَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ بِسَبَبِ بَعْضٍ وَذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِعَمَلِ الْغَيْرِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَفِعُ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ، وَهُوَ انْتِفَاعٌ بِعَمَلِ الْغَيْرِ، وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فِي الْحِسَابِ ثُمَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي دُخُولِهَا ثُمَّ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ» وَهَذَا انْتِفَاعٌ بِسَعْيِ الْغَيْرِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْعُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ.
وَذَلِكَ مَنْفَعَةٌ بِعَمَلِ الْغَيْرِ.
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ بِمَحْضِ رَحْمَتِهِ، وَهَذَا انْتِفَاعٌ بِغَيْرِ عَمَلِهِمْ.
وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَدِينِ حَتَّى قَضَى دَيْنَهُ أَبُو قَتَادَةَ وَقَضَى دَيْنَ الْآخَرِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَانْتَفَعَ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْغَيْرِ، وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ» فَقَدْ حَصَلَ لَهُ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ بِفِعْلِ الْغَيْرِ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ تَأَمَّلَ الْعِلْمَ وَجَدَ مِنْ انْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِمَا لَمْ يَعْمَلْهُ مَا لَا يَكَادُ يُحْصَى فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَفِعُ إلَّا بِعَمَلِهِ فَقَدْ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا اهـ وَمِثْلُهُ لِلْكَرْخِيِّ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وقَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ وَالْخُصُوصِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَزِيَادَةِ النَّعِيمِ فَلَا يُسَمَّى ثَوَابًا، وَلَا أَجْرًا وَلَا جَزَاءً فَإِنَّهَا أَلْفَاظٌ مُشْعِرَةٌ بِالْإِعْطَاءِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَالْأَمْرُ فِيمَا يَقُولُهُ قَرِيبٌ؛ إذْ لَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُهُ أَيْ الشِّهَابِ الْقَرَافِيِّ الْآيَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ مَعَ الْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ كُلِّهَا مَعَ الْخِلَافِ فِي الْبَدَنِيَّةِ كُلِّهَا، أَوْ مَا عَدَا الصَّلَاةَ مِنْهَا. اهـ.
فَفِي حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ عَلَى عَبْدِ الْبَاقِي عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ نَقَلَ الْحَطَّابُ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ: وَمَا تَطَوَّعَ وَلِيُّهُ عَنْهُ مَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ إهْدَاءِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْقُرَبِ قَالَ: وَجُلُّهُمْ أَجَابَ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ أَثَرٌ، وَلَا شَيْءٌ عَمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ السَّلَفِ اُنْظُرْهُ.
وَقَدْ اعْتَرَضَهُ الشَّيْخُ ابْنُ زِكْرِيٍّ بِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ وَغَيْرِهَا «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْك فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي قَالَ مَا شِئْت قُلْت: الرُّبْعَ قَالَ مَا شِئْت، وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك