من أهل القبور" (?)، وأحمد والنسائي أولَهُ: "اعبد اللَّه كأنك تراه، وكن في الدنيا. . . " إلى آخره (?).

ثم هذا الحديث أصلٌ عظيمٌ في قِصَر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذها وطنًا ومسكنًا، بل ينبغي له أن يكون فيها كأنه على جناح سفر؛ يهيئ جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم عليهم الصلاة والسلام.

وفيه: الابتداءُ بالنصيحة، والإرشادُ لمن لم يطلب ذلك، وحرصُه صلى اللَّه عليه وسلم على أصل الخير لأمته؛ لأن هذا لا يخص ابن عمر، بل يعم جميع الأمة، والحضُّ على ترك الدنيا والزهد فيها، وألَّا يأخذ منها إلا مقدار الضرورة المعينة على الآخرة؛ إذ الغريب المقيم ببلد الغربة متوحشٌ لا يجد من يستأنس به، ولا مقصد له إلا الخروج عن غربته إلى وطنه من غير أن ينافس أحدًا في مجلسٍ أو غيره، أو يتأثر بنحو لبسه لغير لائقٍ به.

وكذلك عابر السبيل -أي: المار على الطريق، وهو المسافر- إذ لا أرب له إلا فيما يُبَلِّغه إلى وطنه واجتماعه بأهله، فلا يتخذ في بعض المراحل نحو دارٍ ولا بستانٍ؛ لعلمه بقلَّة إقامته، وأنه لو أمكنه الطيران. . فَعَلَه ولا يُعرِّج على غير سبب الوصول، فمن ثَمَّ أوصى صلى اللَّه عليه وسلم ابن عمر أن يكون على أحد هذين الحالين؛ يُنَزِّل نفسه منزلةَ غريبٍ، فلا يعلِّق قلبه ببلد الغربة، بل بوطنه الذي يرجع إليه؛ إذ إقامته إنما هي لبعض مؤنة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه، أو منزلةَ مسافر ليله ونهاره إلى مقصده، فلا همة له إلا في تحصيل زاد السفر دون الاستكثار من أمتعة أخرى.

ومن ثم أوصى صلى اللَّه عليه وسلم جماعةً من أصحابه بأن يكون بلاغهم من الدنيا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015