التضييع لا يختص بالفرض عند غيرنا؛ وهو ما ثبت بدليلٍ قطعيٍّ، بل يعم الواجب عنده أيضًا؛ وهو ما ثبت بدليلٍ ظنيٍّ، فتفريع: "فلا تضيعوها" على ما قبله ظاهرٌ في شموله للقسمين.
(وحدَّ حدودًا) جمع حدٍّ؛ وهو لغةً: الحاجز بين الشيئين، وشرعًا: عقوبةٌ مقدرةٌ من الشارع تزجر عن المعصية؛ أي: جعل لكم حواجز وزواجر مقدرةً تحجزكم وتزجركم عما لا يرضاه.
وإنما حملنا الحدود هنا على الزواجر المذكورة دون الوقوف عند النواهي والأوامر؛ لأنها حينئذٍ تكون مكررةً مع ما قبلها وما بعدها؛ إذ الفرائض المفروضة حدودٌ محدودةٌ بهذا المعنى؛ لأنها مقدرةٌ محصورةٌ يجب الوقوف عند تقدير الشرع فيها، وكذلك المحرمات؛ وحينئذ فمعنى: (فلا تعتدوها) أي: لا تزيدوا عليها عمَّا أمر به الشرع، وجَلْدُ عمرَ رضي اللَّه تعالى عنه في الخمر ثمانين ليس فيه زيادةٌ محظورةٌ وإن اقتصر صلى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر فيه على أربعين؛ لأن الناس لمَّا أكثروا من الشرب زمنَه ما لم يكثروه قبله. . استحقوا أن يزيد في جلدهم تنكيلًا وزجرًا، فكانت الزيادة اجتهادًا منه بمعنى صحيح مسوغٍ لها، ومن ثم قال علي كرم اللَّه وجهه: (إن كلًّا من الزيادة وعدمها سنة) (?) أي: لأنه صلى اللَّه عليه وسلم أمر بالاقتداء بعمر خصوصًا بقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"، وعمومًا بقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين. . . " الحديث السابق (?).
ولا يعارض قول علىٍّ هذا قوله أيضًا: (لا يموت أحدٌ في حدٍّ يقع في نفسي منه شيءٌ إلا شارب الخمر؛ فإنه لو مات. . وديته؛ وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لم يسنَّه) (?) لأن معنى قوله: (لم يسنَّه) أي: بقولٍ أو فعلٍ.
ومعنى أنه سنَّه: أن حكم عمر به مجتهدًا فيه مراعيًا فيه المصلحة سنةٌ أيضًا، لحثِّه صلى اللَّه عليه وسلم على الاقتداء بسنة عمر كما تقرر، فكانت بمنزلة ما سنَّهُ صلى اللَّه