أوردنا هذه الآيات الشريفة لقصد تليين قلب المقلد الذي قد جمد وصار كالجلمد فإنه إذا سمع [45] مثل هذه الأوامر القرآنية ربما امتثلها وأخذ دينه عن كتاب الله وسنة رسوله طاعة لأوامر الله تعالى. فإن هذه الطاعة وإن كانت معلومة لكل مسلم كما تقدم لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع القرآنية والزواجر النبوية فإذا ذكر بها ذكر ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين على غير متزحزحين عنه، فإنه يقع في قلبه أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه وما كان مخالفًا له فليس من الإسلام في شيء فإذا راجع نفسه رجع. ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ثم سمع قبل أن يتمرن بالعلم ويعرف ما قاله الناس خلافًا يخالف ذلك المألوف استنكره وأباه قلبه ونفر عنه طبعه، وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس من لا يأتي عليه الحصر، ولكن إذا وازن العاقل بعقله بين من أتّبع أحد أئمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلد ولا مستند لذلك العالم فيها بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل، وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن أو السنة أفاده العقل أن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل بل لا جامع بينهما لأن من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة أولها وآخرها وحيِّها وميتها، وأحدهم هذا العالم الذي تمسك المقلد له بمحض رأيه وهذا العالم هو محكوم عليه بالشريعة لا أنه حاكم فيها وهو تابعٌ لها لا متبوعٌ فيها فهو كمن تبعه في أن كل واحدٍ منهما فرضه الأخذ بما جاء عن الشارع لا فرق بينهما إلا في كون المتبوع عالمًا والتابع جاهلاً.
فالعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون [46] أن يرجع إلى غيره لأنه قد استعد لذلك بما اشتغل به من الطلب والوقوف بين يدي أهل العلم والتخرج بهم في معارف الاجتهاد، والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة على طريقة طلب الدليل واسترواء النص وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها فهم رواة وهو مسترو وهذا عاملٌ بالرواية لا بالرأي،