واعترضه الصفاقسي بأن عين فعلن المتحركة في هذا البحر إنما هي أول سبب نظراً إلى الجزء الأصلي، وأما بعد دخول الخبل والكشف فيه فقد صارت ثاني سبب فلم قلم إن زحافها نظراً إلى ما صارت إليه ممتنعٌ لا بد له من دليل؟ ألا أن الجمهور لا يجوزون خرم بيتٍ أوله سبب فإذا زوحف السبب بحذف ثانيه فصار أول الجزء على هيئة الوتد المجموع أجازوه فيه نظراً إلى ما صار إليه؟ فكذلك نقول في هذا. قلت: لا نسلّم أن ثاني فعلن بعد خبل الجزء وكشفه صار ثاني سبب ثقيل، ويكاد القول بذلك يكون خرقاً لإجماعهم، وأما نسبة القول بجواز الخرم فيما صارفي المآل على هيئة وتد مجموع إلى الجمهور فباطلةٌ، بل الجمهور على خلافها. التنبيه الثاني: إنما لم يستعمل مفعولات في السريع على أصله لضعفه بالوتد المفروق الذي أوله يشبه لفظ السبب، فاستعمل في العروض مطوياً مكشوفاً ليقع وسط البيت ما فيه لفظ الوتد وهو فاعلن ثم غير الضرب لأن بقاءه على أصله يؤدي إلى الوقوف على المتحرك. التنبيه الثالث: إنما لم يدخل الجزء في هذا البحر لئلا يلتبس بمجزوء الرّجز. وما ورد من مستفعلن مربّعاً حُمل على أنه من الرجز، لأن هذا الجزء المحذوف حينئذ من الرجز موافق للباقي فيكون دليلاً عليه ولا كذلك في السريع، قاله الزجّاج.

المنسرحُ

أقول: قال الخليل: سمي بذلك لانسراحه وسهولته. وقيل: لانسراحه هما يلزم أضرابه، وذلك لأن مستفعلن إذا وقع في الضرب فلا مانع يمنعه من أن يأتي على أصله إلا في المنسرح فإنه امتنع فيه أن يأتي إلا مطويا. واعترضه ابن بري بأن قصره على استعماله مطويا ضدّ الانسراح. قال الصفاقسي: وفيه نظر. وهو مبني في الدائرة على ستة أجزاء على هذه الصورة: مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن، مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن قال:

يلجّج يفشى صبر سعدٍ بذي سمي على سمتِ سولاف به الإنس قد يرى

أقول: الياء من ((يلجج)) إشارة إلى أن هذا البحر هو العاشر من البحور، والجيم الأولى إشارة إلى أن له ثلاث أعاريض، والجيم الثانية إشارة إلى أن له ثلاثة أضرب. العروض الأولى صحيحة لها ضرب واحد مطوي، وبيته:

إن ابن زيدٍ لازال مستعملاً ... للخير يفشى في مصرهِ العُرفُا

فقوله ((مستعملا)) هو العروض، وزنه مستفعلن، وقوله ((هْلُعرفا)) هو الضرب وزنه مفتعلن. وأشار إلى هذا الشاهد بقوله ((يفشى)) . قال الصفاقسي: والتزام طيّ هذا الضرب مع تمام عروضه بنقص ما أصلوه من أن الضرب لا تكون حركاته المتوالية أكثر من حركات عروضه المتوالية. وقد مر هذا في الطويل فتنبه له. العروض الثانية منهوكة موقوفة وضربها مثلها، وبيته:

صبراً بني عبد الدارْ

فقوله ((عبد دارْ)) وزنه ((مفعولان)) وأشار إلى هذا الشاهد بقوله ((صبر)) . العروض الثالثة منهوكة مكشوفة وضربها مثلها، وبيته:

ويل أمّ سعدٍ سعداً

فقوله ((دنسعدن)) وزنه مفعولن، وأشار إلى هذا الشاهد بقوله ((سعد)) . والأخفش يعدّ هذا والذي قبله من الكلام الذي ليس بشعر جرياً على أصل مذهبه. قال ابن بري: والصحيح أنه شعر لأنه مقفى جارٍ على نسبة واحدة في الوزن فإنه قال:

ويل ام سعدٍ سعدا صرامةً وحدَّا وسؤدداً ومجدا وفارساً معدَّا سدَّ به مسدّا

ويدخل هذا البحر من الزحاف الخبن والطيّ والخبل. والطيّ فيه حسن، والخبن صالحٍ، إلا في مفعولات فإنه فيه قبيح، والخبل قبيح، والطي ممتنع في العروض الثانية والثالثة لقرب محله من الوتد المعتل، والخبل أيضاً ممتنع في العروض الأولى لما يؤدي إليه من اجتماع خمس متحركات، فإن الجزء الذي قبلها مفعولات وآخره متحرك فلو خبلت العروضُ لاجتمع فيها بالخبل أربعُ متحركات وقبلها حركة آخر مفعولات فتلتقي الخمسُ، وهو لا يتصور في شعر عربي أصلاً. فبيت الخبن:

منازلٌ عفا هنَّ بذي الأرا ... ك كلُّ وابلٍ مسبلٍ هطل

أجزاؤه كلها إلا الضرب مخبونة. وأشار إلى الشاهد بقوله ((بذي)) . وبيت الطي:

إنّ سُميراً أرى عشيرتهُ ... قد حدبوا دونه وقد أنفوا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015