فالمعاقبة أيضاً متصورة بين نون (فاعلاتن) الواقع آخر الصدر وألف (فاعلاتن) الواقع أول العجز، وبين نون (فاعلاتن) هذه وألف (فاعلن) الواقعة بعدها، فتتصور هنا ثلاثة أسماء ذكرها الجماعة وهي: الصدر، والعجز والطرفان.

فأما الصدر فهو ما زوحف أوله لسلامة ما قبله، كقولك هنا: فاعلاتن فعلاتن. سمي بذلك لوقوع الحذف في صدر الجزء.

والعجز هو ما زوحف آخره لسلامة ما بعده كقولك: فاعلاتُ فاعلن. سمي بذلك لوقوع الحذف في عجز الجزء. والطرفان ما زوحف أوله لسلامة ما قبله، وآخره لسلامة ما بعده، كقولك هنا: فاعلاتن فعلات فاعلن، فحينئذ إنما يقع الطرفان في الجزء الذي هو أول العجز بشكلِ فتثبت نون (فاعلاتن) قبله وألف (فاعلن) بعده.

هذا ما قالوه وهو واضح، ولا التزم تنزيله على كلام الناظم. فإن عباراته لا تفي بالمقصود، ولم يشف الشارح الشريف في تقريرها.

قال: وعاد للناظم في هذا البيت بين أول شطريه وآخرهما، فرد الصدر إلى الأول والعجز إلى ثانيه، والطرفين إلى كليهما. وسكن الناظم العجز تخفيفاً على حد قولهم في عضد عضد، وكتف كتف. هذا كلامه. قال:

تحل بيحدو كاهن بي وجزؤها ... بريء متى تفقد وقد جاز أن ترى

أقول: يعني أن المعاقبة تحل في الأبحر المرموز لها في قوله (يحد وكاهن بي) الباء الأولى ليست رمزاً وإنما هي ظرفية والباء الأخيرة ليست من الرمز لأنها تقدمت فأشار بالياء إلى البحر العاشر وهو المنسرح، والمعاقبة فيه واقعة في (مستفعلن) الذي بعد (مفعولات) ، فتعاقب فاؤه سينه وذلك لأنهما لو أسقط حتى يصير الجزء إلى (فعلتن) وقبلها تاء (مفعولات) لاجتمع خمسة حركات، وذلك لا يتصور وقوعه في شعر عربي أبداً. والحاء إشارة إلى البحر الثامن وهو الرمل، والمعاقبة فيه واقعة بين نون (فاعلاتن) وألف الجزء الذي بعده.

والدال 'إشارة إلى البحر الرابع وهو الوافر؛ والمعاقبة فيه تتصور بأن يعصب (مفاعلتن) فينقل إلى (مفاعيلن) فتعاقب فيه الياء النون. والواو إشارة إلى البحر السادس وهو الهزج، والمعاقبة فيه بين ياء مفاعيلن ونونه كما تقدم. والكاف إشارة إلى البحر الحادي عشر وهو الخفيف، والمعاقبة فيه بين نون (مستفع لن) وألف (فاعلاتن) ، فلا يجتمع خبن الجزء الثاني مع كف الأول. والألف إشارة إلى البحر الأول وهو الطويل، والمعاقبة فيه بين نون مفاعيلن ويائه كما مر. والهاء اشارة الى البحر الخامس وهو الكامل. وبيان المعاقبة فيه أن (متفاعلن) يضمر فينقل الى مستفعلن فتعاقب سينه فاؤه. والنون إشارة إلى البحر الرابع عشر وهو المجتث، والمعاقبة فيه بين نون (مستفع لن) وألف (فاعلاتن) كما تقدم في الخفيف، وذلك لأن (مستفعل لن) فيهما مركب من سببين خفيفين ووتد مفروق بينهما. وقول الشريف (مركب من سببين خفيفين فإنهما وتد مفروق) فيه نظر يظهر بالتذكر لما سبق في أول الكتاب. والباء إشارة إلى البحر الثاني وهو المديد، فتعاقب فيه نون فاعلاتن أي في الجزء الذي بعده. وقوله: وجزؤها بريء متى تفقد، وقد جاز أن ترى (قال الشريف: يريد أن الجزء الذي يسلم من الزحاف للمعاقبة وهو سائغ فيه يسمى بريئاً. وحقيقة البريء أنه جزء عاقب بثابت حرف من أوله أو من آخره جزءاً بعده سقط من صدره، أو جزءاً قبله سقط من عجزه. فلت: وفي شرح عروض ابن الحاجب لابن واصل ما نصه. والبريء ما سلم من المعاقبة التي فيها الصدر والعجز والطرفان، وكذا قال غيره. فإذن قوله (قد جاز أن ترى) جملةٌ خاليةٌ من الضمير النائب عن الفاعل في قوله (تفقد ويتجه على الناظم اعتراض في إطلاقه القول بأن جزء المعاقبة على الصفة المذكورة بريء مع كونه مخصوصٌ بما تقدم. لكن وقع في كلام ابن بري وغيره أن البريء ما سلم من المعاقبة، فظاهره سواءٌ كانت المعاقبة مما فيه الطرفين أو لا. وهو موافق لإطلاق الناظم. قال:

ومنعك للضدين مبدأ شطري لم ... بأربعها كلٌ مراقبةً دعا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015