نعم في البداية سيجد نور القرآن بعض الصعوبة في الدخول إلى القلب بسبب حجب الظلمات التي تراكمت عليه من آثار المعاصي والغفلات، ولكن هذه الحجب لن تستطيع أن تقاوم طويلا دخول أشعة نور القرآن إلى القلب إذا ما داوم الشخص على تلاوته بتدبر، وكلما دخل النور إلى جزء من أجزاء القلب انطرد منه الهوى وعادت إليه الحياة مرة أخرى، إلى أن يأتي الوقت الذي يعود فيها القلب إلى كامل صحته، قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
وفي المقابل فإن من يتبنى طريقة التخلية قبل التحلية فسيظل يراوح في مكانه، ولن يصل إلى مبتغاه، من تطهير قلبه أولا من أمراضه، لأنه كلما فتش في نفسه سيجد آفات وعيوبا، وكلما تخلص من واحد منها ظهر آخر، ولن يستطيع أن يدعي في يوم من الآيام أنه تخلص منها جميعا.
العقبة السادسة
مفهوم الانشغال بالقرآن
إن الانشغال الحقيقي بالقرآن يعني أول ما يعني الانشغال بمعانيه، ومواعظه، وجوانب هدايته، وامتلاء القلب بها وتمكنها من العقل الباطن واللاشعور، فينعكس ذلك على خواطر العبد واهتمامته.
- والانشغال بالقرآن يعني كذلك الانشغال بحمل معانيه إلى الناس، ودعوتهم إلى الجلوس المباشر معه، وإزالة الحاجز النفسي بينهم وبينه.
- ومن أهم صور الانشغال بالقرآن: تعريف الناس بربهم عن طريقه، وذلك من خلال ربط آيات القرآن بآيات الكون، والاستدلال منها على الخالق العظيم، ذي الجلال والإكرام.
قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
- ومن صور الانشغال بالقرآن كذلك: السعي الدءوب على تحويله إلى واقع ملموس في حياة الناس ليصبح دستور الأمة، فتسود أخلاقه جوانب المجتمع، وهذا لن يتم إلا بوجود جيل قرآني يدعو إلى الله بأفعاله قبل أقواله.
- ومع هذا كله يأتي الانشغال بالقرآن كذلك .. الانشغال بدوام تلاوته بالليل والنهار، وحفظ آياته، ولكن بمثل الطريقة التي كان يحفظ بها الصحابة، فيتعلم الإيمان وجوانب الهداية من الآيات قبل حفظها.
إن أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته هم أولئك الذين فهموا مراد الله من إنزاله القرآن، فانكبوا عليه وعملوا به، ودعو الخلق إليه، ولعل هذا هو ما كان يقصده الحسن البصري بقوله: إن أولى الناس بهذا القرآن من اتبعه وإن لم يكن يقرؤه (?).
ومن لوازم تصحيح هذا المفهوم عدم حصر معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» على تعلم وتعليم أحكام التجويد فقط، فكما قال ابن تيمية: دخل في قوله: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» تعليم حروفه ومعانيه جميعا، بل تعلم معانيه هو المقصد الأول من تعلم حروفه وذلك الذي يزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر وغيرهما: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا، وأنتم تعلمتم القرآن ثم تتعلمون الإيمان .. ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.