فليس المقصد من تدبر القرآن إظهار نوع الإعجاز البياني واللغوي، وإمتاع العقل بما فيه من أدب وتاريخ وقصص - وإن كان كل هذا من محتوياته - بل المقصد الأساسي هو المعنى الذي يخرج به قارئه مما يجعله في حالة من دوام التذكر، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

ويضع الشيخ عبد الرحمن السعدي القاعدة لقارئ القرآن فيقول: «وأن يجعل المعنى هو المقصود واللفظ وسيلة له» (?).

ولو تفهمنا هذه القاعدة لأصبح التدبر سهلا ميسرا لمن جعله وسيلة للبحث عن الهدى والشفاء .. فلن يقف القارئ عند كل كلمة يقرؤها بل سيتفكر في المعنى الإجمالي للآية وارتباطها بجوانب الهداية، وأما ما أشكل عليه فهمه فليتركه لعالمه سبحانه وتعالى، وغالبا ما سيجد ما يوضحه في موضع آخر بالقرآن، وحسبنا في ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، بل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه» (?).

قال عبد الله بن مسعود: إن للقرآن منارا كمنار الطريق، فما عرفتم منه فتمسكوا به، وما يشبه عليكم - أو قال: شبه عليكم - فكلوه إلى عالمه (?).

يقول الحسن البصري في قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]، قال: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه (?).

طبيعة التدبر:

حينما كنا نسمع أو نقرأ عن أهمية تدبر القرآن والعمل بما فيه، كانت الرغبة تجتاح النفس، والشوق يملؤها لذلك، ولكن ما إن نبدأ في التطبيق إلا ونقف عاجزين أمام الآيات فلا نكاد نستخرج منها شيئا، تماما كمن يقال له: انظر إلى الشمس وقت الغروب وتفكر فيها .. هو يتمنى أن يخرج بشيء من خلال رؤيته لهذا المنظر الجميل ولكنه يقف جامدا أمامه لأنه لم يتعلم كيف يتفكر، وعم يبحث.

ونفس الأمر إذا ما طلب من شخص ما إبداء رأيه في سيرة أو بناية أو ميزانية شركة وهو بعيد عن هذه المجالات فرأيه إن أبداه لن يفيد أحدا طالما أنه لا يعرف أين سيحرك عينيه، وعم سيبحث، وهذا هو ما يحدث معنا، فعندما يطلب منا التدبر واستخراج خواطر من الآيات، تجد الواحد منا يتأمل فيها ويشعر أنها تحتوي على معان عظيمة لكنه لا يخرج منها بشيء يُذكر لأنه لم يتعلم كيف يتدبر.

نعم قد يتأثر الوجدان بالقراءة والسماع في بعض الأوقات، ولكن هذا التأثر غالبا ما يكون مع آيات الوعيد التي من شأنها مخاطبة الوجدان واستثارة المشاعر، وهذا وحده لا يكفي.

فلنبحث عن الهدى:

القرآن مليء بأنواع كثيرة من العلوم وأوجه الإعجاز، فمن قرأه وهو يبحث عن البلاغة وجدها، ومن قرأه وهو يبحث عن القصة عثر عليها، ومن قرأه وهو يبحث عن الإعجاز العلمي ظفر به، ومن قرأه وهو يبحث عن الهداية وجدها، ومن قرأ القرآن وهو لا يبحث فيه عن شيء لن تراه غالبا وقد استوقفه شيء منه، ألم يقل سبحانه وتعالى عن قصة يوسف: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7].

فالسائلون المهتمون بالموضوع هم الذين سينتفعون بما في القصة من آيات وعبر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015